في أول زيارة له بعد توليه منصب وزير الخارجية الأمريكية، التقي جون كيري بعدد من قيادات الأحزاب والحقوقيين ورجال الأعمال وكبار المسئولين في القاهرة، لم يتوقع أحد تغييرًا دراماتيكيًا في الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان ونظامها الحاكم في مصر، ولكن يمكن التوقف هنا أمام عدد من المؤشرات المهمة التي لا تخلو من دلالة ومعني. أولاً: أن لقاءات جون كيري في القاهرة بدأت بالمعارضين وانتهت برئيس الدولة، وهذا يعني أن واشنطن أرادت أن تستمع لمعارضي سياسات الرئيس وجماعته أولاً، ثم بعد ذلك يتولي هو الحوار مع الرئيس حول المطالب التي سمعها من المعارضين، وهو أمر لم يكن سائدًا قبل ذلك بهذه الدرجة. ثانيًا: أن جون كيري أراد أن يبعث بهذا الموقف برسالة لدي الآخرين بأن واشنطن تطرح نفسها كطرف محايد، يسعي إلي إيجاد أرضية مشتركة بين الطرفين الأساسيين الحكم والمعارضة وهو عكس الموقف الأمريكي الذي ظل سائدًا في الفترة الماضية، والذي يتميز بالانحياز الكامل لرئيس الدولة وحكم جماعة الإخوان المسلمين، معتبرًا أن المعارضة لا تأثير فاعل لها. ثالثًا: أن التصريحات التي أدلي بها وزير الخارجية الأمريكي من أنه جاء إلي مصر كصديق للبلد لا لجماعة معينة، يعني مراجعة أمريكية أولية لسياسة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون والتي عبرت عن انحيازها ودعمها للإخوان إلي الدرجة التي دفعتها لزيارة مرشد الجماعة في مكتبه بالمقطم، وهو أمر كان محل انتقاد كبير من فئات وقوي شعبية عريضة. وبالرغم من أن البعض راح يردد أن مرشد الإخوان د.محمد بديع ربما يكون قد التقي كيري في تركيا قبيل وصوله إلي القاهرة إلا أن إحجام كيري عن زيارة مقر الجماعة أو الالتقاء بأي من عناصرها يؤكد حدوث تغيير في آليات التعامل علي الساحة المصرية ومحاولة لاستيعاب ردود الفعل التي اتهمت واشنطن بأنها تنحاز انحيازًا كليًا لجماعة الإخوان وسياساتها المعادية للديقمراطية وحقوق الإنسان. رابعًا: أن إصرار كيري علي ضرورة مشارركة المعارضة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، لا يعني فقط أن واشنطن تسعي إلي إيجاد مخرج للنظام الحاكم أمام الأزمة التي تسبب فيها، ولكن أيضًا البحث عن حل يحفظ ماء الوجه الأمريكي، بعد أن حمل الرأي العام داخل الولاياتالمتحدة وخارجها الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته السابقة المسئولية الكاملة في دعم الإخوان ووصولهم إلي السلطة، والصمت أمام سياساتهم الجائرة. خامسًا: أن لقاء جون كيري بوزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي يعني أراد البعض أم لم يرد أن الجيش لاعب أساسي في المعادلة، وطرف أصيل فيها، وهو القاسم المشترك بين الفرقاء علي الساحة، وأن أحدًا لا يستطيع تجاهله، وأنه قد يكون مخرجًا لحماية الدولة من الانهيار، في أي مرحلة قادمة. سادسًا: أن حديث جون كيري عن ضرورة انقاذ الأوضاع الاقتصادية خوفًا من شبح إفلاس الدولة، لا يعني جرس إنذار مبنيا علي حقائق مخيفة يعرفها الأمريكان عن واقع الاقتصاد المصري حاليًا، وإنما أيضًا تحذيرا لكافة الفرقاء: السلطة والمعارضة بأن المرحلة القادمة قد تقود البلاد إلي ثورة جياع يدفع الجميع ثمنها وتهدد بانتشار فوضي عارمة في جميع أنحاء البلاد. تلك كانت رسالة وزير الخارجية الأمريكية، وهي تأتي استكمالاً لحالة القلق التي تعيشها الإدارة الأمريكية ورئيسها الذي أجري اتصالاً هاتفيًا بالرئيس محمد مرسي قبيل أيام من زيارة جون كيري، طالبه فيه بأن يكون رئيسًا لكل المصريين وليس لجماعة بعينها، وهي رسالة تعكس قناعة الإدارة الأمريكية بأن جماعة الإخوان ورمزها في الحكم قد فشلت في إدارة الدولة حتي الآن، وهي تضع واشنطن في موقف حرج أمام الرأي العام وتهدد بفشل تجربة الربيع العربي التي كانت الإدارة الأمريكية الحالية داعمًا لها ولاتزال. ومن المؤكد أن السفيرة الأمريكية 'آن باترسون' تبدو أكثر المسئولين الأمريكيين قلقًا، خاصة أنها شاركت من خلال تقاريرها المختلفة في تضليل الإدارة الأمريكية في الفترة الأولي وتحديدًا تلك التي سبقت الانتخابات الرئاسية بانحيازها الكامل لجماعة الإخوان المسلمين وتجاهل بقية القوي المعارضة والفئات الشعبية المختلفة. ويبدو أن ذلك كان وراء نصيحتها لجون كيري بعدم زيارة مقر جماعة الإخوان حتي لا يستفز الآخرين والحرص علي التأكيد أنه جاء لكل المصريين وليس لجماعة بعينها، وانه لا يريد أن يفرض حلاً علي طرف لحساب طرف آخر، وأنه يجب أن يسمع الرئيس مرسي موقفاً صريحًا من الإدارة الأمريكية بالتحذير من مخاطر الحالة المصرية وتداعياتها في الفترة القادمة بما يمكن أن يهدد السلامة الوطنية ويفتح الطريق أمام الحرب الأهلية. لقد كنت أتمني أن يقاطع الجميع زيارة وزير الخارجية الأمريكية وأن يرفضوا لقاءه، ليس فقط احتجاجًا علي دعم واشنطن للإخوان المسلمين طيلة الفترة الماضية، ولكن أيضًا لأنه لا يجب بأي حال من الأحوال مناقشة أوضاعنا الداخلية مع طرف أجنبي نعرف أنه معاد للمصالح الوطنية ويقف وراء كثير من الأزمات والمخططات التي تستهدف إضعاف الدولة وجعلها لقمة سائغة في يد الآخرين. وإذا كانت زيارة جون كيري لم تنجح في إقناع الفرقاء بإنهاء الأزمة الناشبة والجلوس إلي مائدة الحوار والمشاركة في الانتخابات فهذا ليس مرده المعارضة، ولكن النظام الحاكم الذي حاول أن يحمل المعارضة وجبهة الانقاذ المسئولية الكاملة عن فشل التوصل إلي اتفاق ينهي الأزمة، متغاضيًا عن أن الإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس الدولة في 22 نوفمبر الماضي وما تلاه من قرارات وإجراءات، كان هو النقطة الفصل في انفجار الأوضاع في البلاد منذ هذا الوقت. صحيح أن وزير الخارجية الأمريكي وفقًا لما تسرب من معلومات حاول الضغط علي الرئيس مرسي لإقناعه بتقديم تنازلات وتشكيل حكومة انتقالية لإدارة العملية الانتخابية وتقديم ضمانات محددة يمكن أن تقنع المعارضة بالتراجع عن موقفها من عدم المشاركة في الانتخابات، إلا أنه فوجئ بمعارضة شديدة من الرئيس مرسي ومحاولة لتبرير الموقف، بادعاء أن الوقت لا يتسع، وأن الضمانات موجودة، وأنه ملتزم بتنفيذها متجاهلاً بذلك مطالب المعارضة كاملة. بقي القول أخيرًا إن زيارة جون كيري، لم تحقق نتيجة تذكر سوي بعض النصائح التي أسداها لجميع الأطراف التي التقاها خلال زيارته القصيرة، لكن هذه النصائح لم تنجح في تغيير حقائق الواقع علي الأرض. 2 انتشار الفوضي ومسئولية الجيش انتشرت عمليات الخطف والعنف في كل مكان، عصابات بلا رادع، تمارس أعمالها في وضح النهار، في محطات الوقود، والشوارع، والطرق الرئيسية، تخطف الكبار والصغار، الشباب والفتيات، تجري الاتصالات الهاتفية وتحدد فدية مالية مرتفعة للإفراج عن المخطوف، تهدد وتتوعد إذا ما لجأ أهل المخطوف إلي الشرطة التي أصبحت هي الأخري عاجزة عن القيام بمهمتها، أمام ما تشهده البلاد من قلاقل وأحداث عنف.. خلال اليومين الماضيين تم اختطاف نجل شخصية هامة في الثالثة ظهراً علي طريق رئيسي بالقرب من القاهرة تم ايقاف سيارته وسط جمع من السيارات، بعد إطلاق الرصاص عليه أمام ذهول المارة، اصطحبوه ومضوا به بعيداً، اتصلوا بأسرته هاتفياً، طلبوا فدية تقدر بعدة ملايين وانتهي الأمر بمئات الآلاف.. .. كان التحذير من اللجوء للشرطة حاسماً، هددوا بقتل المختطف، فما كان من الأسرة إلا أن رضخت للشروط ودفعت قيمة المبلغ المطلوب تفادياً لجريمة يمكن أن تقع.. هكذا وصل بنا الحال، هذا نموذج من نماذج متعددة نسمع بها يومياً، القليل منها معلن، والكثير منها يجري من خلف ستار تدفع الأموال ويفرج عن الضحية دون اعلام خوفاً من العواقب والنتائج.. أعمال العنف وإطلاق الرصاص أصبحت لغة يومية في الشارع المصري لقد حكي لي أحد الأصدقاء عن معركة بالأسلحة النارية جرت بين مكوجي وبائع في أحد شوارع مصر الجديدة وتحديداً في منطقة الجولف ظهر الجمعة الماضي حيث جاء كل بأنصاره واستمرت المعركة وإطلاق الرصاص وسط المنطقة السكنية ما لا يقل عن ساعتين، حبس فيها الجيران أنفاسهم، أغلقوا بيوتهم، انتظروا الشرطة التي جاءت بعد مضي وقت ليس بالقليل لتنقذ ما يمكن انقاذه. وهكذا رويداً رويداً ينتشر العنف من بقعة إلي بقعة، أصبح السلاح في يد الجميع بلا استثناء،سلطة الدولة تتحلل، والقانون لم يعد يسعف أحداً، الخوف يسيطر علي الجميع، حالة الفزع والقلق من الحاضر والمستقبل تدفع الكثيرين إلي الهجرة خارج البلاد، وكأنه مخطط مرسوم لتفريغ مصر من داخلها، ولإجبار الناس علي الصمت والانكفاء في همومها ومشاكلها.. ماذا يراد بمصر، وأي وطن هذا الذي لا يضمن لأبنائه أمناً ولاستقراراً وللقمة عيش كريمة بعد ثورة ضحي فيها الشباب بأغلي ما يملكون، فإذا بالثورة تختطف، وإذا بالصراع الاجتماعي يحتد، وإذا بالإدارة التي تحكم تشيع الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب، وبين الشرطة والشعب، وبين مؤسسات الدولة وبعضها البعض وهلم جرا.. إن ما يجري علي أرض الوطن خطير، وهو ليس فقط انذارا بخطورة المرحلة، ولكنه بداية لفوضي عارمة، أصبحنا نعيشها منذ ثورة يناير وحتي الآن، انتظر الناس تغييراً حقيقياً للواقع بعد الثورة، فإذا بهم الآن يفتقدون إلي أدني حدود الأمان والاستقرار.. انتشرت مساحات الفقر والجوع، أغلقت المصانع أبوابها هرب المستثمرون من البلاد، توقفت السياحة وأصيبت بيوت العاملين فيها بالخراب، أكثر من 300 مصري هاجروا من البلاد ومئات الآلاف في الطريق أسلحة تتدفق من الغرب ومن الجنوب، سيناء أصبحت خارج السيطرة، عناد من نظام يشعل المزيد من النيران، محافظات القناة تعيش في حالة عصيان مدني، المنصورة تشتعل، كفر الشيخ، طنطا، المحلة، القاهرة، الجيزة، الفيوم، المنيا، أسوان، البحيرة، الشرقية، المنوفية، الأسكندرية وغيرها وغيرها!!. .. أطفالنا توقفوا عن الحلم، ضاعت البسمة من علي الشفاه، الأمهات في قلق مستمر، الآباء يلهثون وراء لقمة العيش التي تسد الرمق، الحكومة لا تبالي، ترفع الأسعار، تستجيب لشروط صندوق النقد، أسعار البنزين ولقمة العيش والوقود ترتفع بلا حدود، لا دعم، لا فرص عمل، لا أمل في المنظور القريب.. .. كنا نظن أن انتخاب رئيس جديد، هو بداية للاستقرار، وعرس ديمقراطي للجميع، لكننا وجدنا أنفسنا تحت سيطرة جماعة، تسعي للهيمنة، والسيطرة ونفي الآخرين، ونشر الفوضي وتفكيك الدولة، بزعم أنها دولة النظام السابق.. يريدون بناء دولتهم، باسم الثورة يهدمون كل شيء، يصفون الحسابات، لقد جاءوا للثأر وليس للإصلاح.. من الطبيعي في ظل هذه الحالة أن تنقلب الأوضاع رأساً علي عقب، أن تنهار المؤسسات الواحدة تلو الأخري، وأن يفقد الناس حماسهم، وأن تتراجع أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم لتتقزم إلي حد البحث عن لقمة عيش وعن أمن مفقود وهذا هو عين المراد.. إن ما يحدث في مصر، مؤامرة كبري، تستهدف اسقاط الدولة لحساب الجماعة وهيمنتها وفي سبيل ذلك تستباح كل المحرمات ولذلك من حقنا أن نسأل جيشنا العظيم عن مسئوليته في حماية الدولة، وهي مسئولية تحددها المادة '194' من الدستور!!. .. لماذا الصمت وترك البلاد تمضي نحو الفوضي؟ أليست مسئولية حماية الدولة واستقرارها وأمنها القومي هي مسئولية قواتنا المسلحة؟! إذن إن لم يتدخل الجيش اليوم لفرض سيطرته وحماية أمن واستقرار البلاد فمتي يتدخل؟!