فتحت زيارة جون كيري وزير الخارجية الأمريكية الجديد إلي القاهرة التكهنات أمام سيناريوهات عديدة للعلاقات المصرية الأمريكية التي تمر بمراحل مد وجزر طوال العامين الماضيين ولم يسعفها وصول محمد مرسي إلي الرئاسة حتي تستقر العلاقات التي واجهت التحدي الأكبر منذ ثلاثين عاما. غادر كيري القاهرة مساء أمس إلي الرياض بعد ماراثون من الحوارات مع معظم أطياف السياسة المصرية والرئيس ووزير الدفاع ورجال الأعمال والمنظمات الحقوقية والمدنية حاملا تقييمه للبيت الأبيض صاحب القول الفصل في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر. اللقاء الأول لجون كيري في القاهرة كان مع مجموعة من رجال الأعمال والتصريح الأول تحدث فيه عن ضرورة أن عودة الاقتصاد المصري للوقوف علي قدميه وهو يعكس المخاوف المتزايدة من المسئولين الأمريكيين من وضع الاقتصاد وإمكانية حدوث انهيار فعلي سبق أن تلقت الرئاسة المصرية الحالية تحذيرات بشأنه من الإدارة الأمريكية عدة مرات إلا أنها لم تلتفت كثيرا للمعلومات والتقديرات الواردة من واشنطن, والأخيرة ليس في صالحها التعامل مع وضع اقتصادي حرج في مصر يضاف إلي مشكلات أخري منها غياب التوافق بين الأطراف الأساسية في العملية السياسية. ولم يخرج المؤتمر الصحفي الأول لكيري في القاهرة عن التصريحات التقليدية بدعوة أطراف العملية السياسية إلي الحوار للخروج من الأزمة والإشادة بخطوة دعوة المراقبين الدوليين في الانتخابات البرلمانية المقبلة, وهي التي تراها أطراف أمريكية بمثابة بالون اختبار من الإدارة المصرية لقبول الدول الغربية بإجراء انتخابات لا تشارك فيها قوي المعارضة المدنية الرئيسية. وتشير المعلومات المتوافرة لدي الجانب الأمريكي إلي وجود قلق بالغ في واشنطن من غياب الأحزاب المدنية الرئيسية عن مشهد الانتخابات المقبلة, حيث تعول الولاياتالمتحدة علي بناء علاقة مشاركة أكبر بين القوي الوطنية في مصر تمهد الطريق لشيئين: الأول, المضي في دعم الاقتصاد عبر القرض المتعثر من صندوق النقد الدولي, والثاني بناء علاقة مشاركة سياسية مع الرئيس محمد مرسي. وتطوير الشراكة الأمريكية مع مرسي من الأوراق المهمة التي لا تريد المعارضة المصرية أن تقدمها علي طبق من فضة للرئيس وجماعة الإخوان المسلمين خشية تعاظم نفوذ الجماعة علي الصعيد الداخلي والإقليمي وتراجع حزب الرئيس عن تعهدات جديدة مثلما حدث عدة مرات في السابق. ولفت مصدر أمريكي تحدث إلي الأهرام إلي فكرة تجنب اللقاءات المعلنة علي الأقل بين كيري وقيادات جماعة الإخوان المسلمين مثلما حدث في زياراته السابقة حتي لا يرسخ الانطباع في الشارع المصري أن واشنطن وهو شخصيا يشاركون في عملية تمكين تيار الإسلام السياسي وفي القلب منه جماعة الإخوان. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده كيري مع وزير الخارجية محمد كامل عمرو, قال الوزير الأمريكي إنه جاء نيابة عن الرئيس باراك أوباما كصديق لمصر وليس لدعم' جماعة' بعينها, وهو تصريح يعكس الانتقادات الحادة التي واجهت كيري في لقائه مع ممثلي المعارضة المدنية واضطراره للدخول من الباب الخلفي لمبني وزارة الخارجية المصرية بعد أن رفع العشرات لافتات رافضة لوجوده في القاهرة. ولم تكن ردود' كيري' الخاصة بضرورة المشاركة, وليس المقاطعة, في الانتخابات التشريعية القادمة مقنعة للحضور في لقاء المعارضة نتيجة غياب الصورة الكاملة في واشنطن عن الوضع علي الأرض في مصر أو نتيجة رغبة الإدارة الأمريكية في بناء علاقة مشاركة مع مرسي بترويض المعارضة المدنية لمصالحها بالضغط علي الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين لمنح المعارضة مساحة حركة أكبر وعدم التضييق عليها في الانتخابات المقبلة, وفي حالة عدم تحقق السيناريو السابق سيكون من الصعب تحقيق استقرار قريب للإقتصاد المصري ولن تكون العملية السياسية مجدية بعد فشل عملية إقرار الدستور الجديد في تقليل حدة الاستقطاب السياسي وزيادة حدة التوتر الأمني في البلاد ودخول الجيش طرفا في المعادلة ونزوله مجددا في مدن القناة بعد أن عجزت قوات الشرطة عن ضبط الحالة الأمنية. ولا يمكن الارتقاء بزيارة كيري إلي مستوي الزيارات التي يؤرخ لها في العلاقات الثنائية أو التي تمثل علامة فارقة للتدخل الأمريكي في العمليات الانتقالية نتيجة غياب الإجماع في واشنطن علي طرق دعم العملية السياسية في مصر, واستفادة المعارضة المصرية من تراكم خبرات التجارب التاريخية الأمريكية في التعامل مع عمليات التحول الديمقراطي في حالات شبيهة أدت إلي تشوهات حادة وعلاقة تبعية بالصديق الأمريكي دون تحولات إيجابية تفيد القطاعات الأوسع في المجتمع, وعدم الحسم الكامل لملف التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين رغم ما نراه من تسارع في إقامة مشاركة مع الإخوان المسلمين من جانب الإدارة الأمريكية, فما حدث في جلسة الاستماع الأخيرة بمجلس النواب الأمريكي تلقي بظلال كثيفة حول المشهد برمته. من ناحية أخري, رجح الجانب الأمريكي إثارة مسألة التوصل إلي تشكيل' حكومة محايدة' في اللقاء الثنائي أمس مع الرئيس مرسي, دون التطرق إليها في التصريحات الرسمية. في المقابل, بدت حزمة مطالب المعارضة أعلي من السقف الذي تراه الرئاسة المصرية والجماعة التي تفضل أن تعبر الانتخابات بالحكومة الحالية وترفض إعادة النظر في تقسيم الدوائر فضلا عن ضمانات أخري تشترطها المعارضة. وبالقطع هناك الدلالة الواضحة لمقابلة جون كيري لوزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي قبل الاجتماع بالرئيس مرسي أمس, والتي تفتح الباب لتأويلات كثيرة بالقطع وفي مقدمتها دور الجيش في المرحلة المقبلة, إلا أن شخصية كيري تشير إلي أشياء عديدة في شأن المقابلة منها أن الرجل مطلع عن قرب عن دور الجيش في العملية الإنتقالية من موقعه السابق في الكونجرس ويثمن دور المؤسسة العسكرية في الأمن الإقليمي واهميتها للمصالح الأمريكية المباشرة في الشرق الأوسط ويعلم اليوم حجم التوتر في الشارع المصري الذي يدفع فئات غاضبة إلي مطالبة الجيش بالتدخل من جديد. سياسة جون كيري هي سياسة التعامل مع الأمر الواقع ومراقبة التطورات عن كثب طالما أنها لا تلحق ضررا بالمصالح الحيوية الأمريكية مع الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية لاتريد الانتقاص من رصيد التقارب مع مرسي وحكومته بعد أن حققت تلك العلاقة للولايات المتحدة الكثير في الشهور الأخيرة. محصلة أول زيارة لجون كيري كوزير للخارجية أن مضمون الأوراق الأمريكية الخاصة بالموقف الداخلي في مصر تبدو مبعثرة ولا ترسم صورة واضحة عن سياسة واشنطن في تلك المرحلة الحرجة, ربما عن قصد, انتظارا لسيناريوهات المستقبل أو ترقبا لتنازلات يدفعون بشأنها في الخفاء لوضع نهاية للعملية الانتقالية المضطربة ورسم مسار اقتصادي أفضل خشية إثارة المزيد من غضب المعارضة الرافضة للتدخل الأمريكي في العملية السياسية الدائرة, وفي كل الحالات تبدو واشنطن ماضية في الطريق الغامض نفسه الذي سلكته في أعقاب ثورات أو انتفاضات أخري في مناطق مختلفة في العالم حيث تسعي لدعم شرعية الحكام الجدد في حال إظهارهم تفهما وتعاونا إزاء المصالح الأمريكية أو تنتظر حسم أطراف بعينها اللعبة لصالحها في حالة تعقد العملية الانتقالية.