إذا كانت الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس يوم الأحد الماضي قد أعادت رسم الخريطة السياسية والبرلمانية في البلاد، وأفرزت قوى سياسية جديدة سيكون لها تأثيرها على الساحة التونسية مستقبلا وصعدت بأحزاب وهوت بأخرى، فإنها في الوقت نفسه ربما تضع البلاد أمام مازق سياسي صعب بالنظر إلى التشكيلة البرلمانية المتشظية والمتنافرة التي أفزرتها هذه الانتخابات وفق ما أظهرته النتائج الأولية للاقتراع. إذ تشير النتائج الأولية للانتخابات إلى غياب قوة سياسية تملك أغلبية وازنة البرلمان الجديد، بعد فشل أي من الأحزاب والقوى السياسية الرئيسة المتنافسة، في الحصول على أغلبية مريحة تمكنه من تشكيل الحكومة الجديدة بسهولة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى رفض العديد من الأحزاب التي فازت بحصة من مقاعد البرلمان، لفكرة التحالف مع حزب حركة النهضة الذي يتصدر نتائج الانتخابات حتى الآن وفقا للنتائج الأولية. ويطرح هذا الموقف السياسي والبرلماني الصعب والمعقد الذي أفرزته الانتخابات، تساؤلات عديدة بشأن فرص نجاح هذه القوى في تجاوز خلافاتها، وتشكيل حكومة جديدة ينتظر أن تخلف الحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد، كما أنها تثير التساؤلات أيضا بشأن قدرة مكونات المشهد السياسي التونسي الجديد، على التعايش فيما بينهما ، لاسيما في وقت تواجه فيه البلاد العديد من التحديات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الصعبة، بينما انصرف قطاع واسع من المواطنين التونسيين عن هذا المشهد كله ، بحثا عن حلول لأزماتهم الحياتية اليومية، وهو ما ترجمته نسبة المشاركة المنخفضة في الانتخابات والتي بلغت 41 في المائة مقارنة ب 49 في المائة في انتخابات 2014 . ويرى مراقبون أن الخريطة البرلمانية التي أعادت رسمها الانتخابات التشريعية الأخيرة في تونس، وإن كانت تعبر عن تحولات لافتة في المزاج السياسي للناخبين التونسيين، فإنها تجعل مسألة تشكيل الحكومة الجديدة مهمة سياسية معقدة وشاقة للغاية على الحزب الذي سيتولاها، وهو هنا حزب حركة النهضة الفائز بأكبر عدد من المقاعد (رغم أنه خسر نحو ثلث مقاعده في البرلمان السابق) . ويزيد من صعوبة تلك المهمة أن العديد من الأحزاب التي حققت نسبة وازنة في البرلمان الجديد، ترفض التحالف مع حركة النهضة خلال المرحلة المقبلة، فقد أعلن كل من حزب "التيار الديمقراطي"، الذي يقوده محمد عبو والفائز ب 14 مقعدا برلمانيا، وحزب "قلب تونس، الذي يتزعمه المرشح الرئاسي المسجون نبيل القروي، والفائز ب 33 مقعدا ، و«الحزب الدستوري الحر» (14مقعدا)، و«حركة الشعب» (15 مقعدا) ،انضمامهم المبكر إلى صفوف المعارضة، ورفضهم الانضمام إلى حكومة تتزعمها حركة النهضة. وتحمل هذه الأحزاب، حركة النهضة التي كانت شريكا في الحكم مع حركة نداء تونس خلال السنوات المضية، جانبا كبيرا من المسؤولية عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد حاليا بسبب فشل السياسات التي انتهجتها في هذا الصدد. ووفقا للدستور التونسي فإن عملية تشكيل الحكومة الجديدة تتطلب تأمين أغلبية برلمانية تضم 109 مقاعد في مجلس النواب البالغ عدد مقاعده 217 مقعدا، وهو ما يفرض على حركة النهضة، التي تشير التوقعات إلى حصولها على نحو57 مقعدا ، البحث عن تحالفات سياسية صعبة وتقديم تنازلات مؤلمة لتحقيق ذلك . وفي حال أكدت النتائج الرسمية للانتخابات، والتي ستعلن في وقت لاحق، فوز حزب حركة النهضة بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان الجديد، فإن الرئيس التونسي الجديد سيقوم بتكليف الحزب بتشكيل الحكومة، حيث سيكون أمامه شهران لتشكيل حكومة ائتلافية، وفي حال فشل الحزب في هذه المهمة خلال تلك الفترة، فإن رئيس الجمهورية، سيكلف حينها شخصية سياسية أخرى يختارها هو لتشكيل حكومة، وإذا أخفق ذلك أيضاً بعد شهرين، فسيكون الخيار الوحيد هو الذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة. وفيما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة لمستقبل المشهد السياسي في تونس على ضوء هذه الخريطة البرلمانية الجديدة ، لا يستبعد محللون ومراقبون سياسيون نجاح عدد من الأحزاب الرئيسية في البرلمان الجديدة في تجاوز خلافاتها والوصول لتوافقات تؤدي لتأمين الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة الجديدة، رغم المواقف المتشددة الحالية الرافضة لفكرة التحالف مع حركة النهضة. ويرى هؤلاء المحللون أنه في السياسية فإن لغة المصالح والصفقات هي التي تنتصر في النهاية، ويشير بعض المراقبين في هذا الصدد إلى التحالف الذي جمع بين حركة النهضة وحزب نداء تونس ، الذي كان يتزعمه الرئيس عقب الانتخابات البرلمانية السابقة عام 2014 ، وهو التحالف الذي وصف بالمستحيل بين خصمين سياسيين لدودين . وفي ضوء ذلك يتوقع المراقبون حدوث تحالفات مماثلة بين حركة النهضة وبعض مكونات المشهد البرلماني الجديد ، لاسيما بعد اختفاء حزب نداء تونس من هذا المشهد ،عقب هزيمته المدوية في الانتخابات ، حيث لم يفز هذا الحزب الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ، إلا بمقعد واحد بعد أن كان له 86 مقعدا في البرلمان السابق . ورغم ما بينهما من خلاف ظاهر في المواقف، ورغم إعلان حزب قلب تونس رفضه التحالف مع حركة النهضة في تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أن بعض المراقبين لا يستبعدون حدوث هذا التحالف بين الحزبين اللذين يتصدران المشهد الانتخابي حاليا. لكن في حال تمسك حزب "قلب تونس" بموقفه الرافض للتحالف مع حركة النهضة، فإن الفرصة تبدو قائمة أمام إمكانية قيام تحالف بين الحركة وأحزاب أخرى ، بما يمكنها من تأمين الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة وتجنب السيناريو الآخر وهو الذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة، ربما لا تكون نتائجها مضمونة بالنسبة لهذه الأحزاب. ومن بين تلك الأحزاب والكتل السياسية التي قد تقبل مشاركة حركة النهضة في حكومة ائتلافية، ائتلاف "الكرامة"، الذي يتزعمه سيف الدين مخلوف، الذي تشير التوقعات إلى فوزه ب 23 مقعدا، وحركة (تحيا تونس)، التي يرأسها رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد ،التي يُتوقع أن تحصل على 19 مقعدا، إلى جانب عدد من قليل من النواب المستقلين. وبينما ينتظر أن يلقى المشهد البرلماني الجديد بظلاله على الأوضاع السياسية في تونس خلال الفترة المقبلة، فإن أمام التونسيين استحقاقا سياسيا لا يقل أهمية وهو جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية المقررة الأسبوع المقبل، والتي يتنافس فيها كل من المرشح المستقل قيس سعيد، ورجل الأعمال المسجون نبيل القروي، وهما المرشحان اللذان فازا بأعلى الأصوات في الجولة الأولى من هذه الانتخابات.