لم تشهد الأمة المصرية انقسامًا وانشقاقًا وتشرذمًا وتناقضًا في الآراء وانفلاتًا في المواقف مثلما تشهده اليوم.. فريق يترنح، يذهب إلي الأمام خطوة، وإلي الخلف عشرات بشكل مزعج ومثير للريبة.. في حين يواجهه فريق المعارضة الثابت علي المبدأ والخطي. ولم تشهد الأمة المصرية استقطابات سياسية حادة تحت يافطات مضللة تمس العقيدة وتتمسح بالدين، رغم كون الصراع الذي يعم الساحة المصرية سياسيًا مائة بالمائة! وهي ترفع لهذا شعار 'الشريعة والشرعية' وتستخدم ما يشبه الميليشيات المسلحة من مظاهرات الاتحادية إلي المحكمة الدستورية، حتي حصار مدينة الإنتاج الإعلامي.. وهي أمور تكاد تودي بوحدة الأمة، بل وتمزق نسيجها الاجتماعي المقاوم للزمن والمحن.. مثل ما نلمسه اليوم. ولا تتعجب عزيزي القارئ في هذا المناخ المأزوم، والمسموم، الذي تتآكل فيه المصداقية والمواقف المبدئية، والثوابت الوطنية، لا تتعجب في أن ترفع بعض محافظات مصر دون سواها.. استقلالها عن الأمة.. تلك الأمة التي تتململ الآن من شدة الصراعات، والضربات غير القانونية من تحت الحزام.. رأينا ذلك في شعارات قادمة من مدينة المحلة الكبري والإسكندرية ودمنهور.. وهي علامات دالة وقاطعة علي حالة الضغب الشعبي الساطع، وعلي أن الأمة صار يعتريها مرض عضال.. وهو بالأساس نابع من محاولة استحواذ فريق الإسلام السياسي- وعلي رأسه 'الإخوان'- علي مقدرات الأمة وهو يحاول أن 'يؤخِّون' الدولة وُيقصي الفرقاء الآخرين بكل ما أوتي من قوة وسلطان! بعد أن تقلد الحكم،، ووثب علي المفاصل، ولم يتبق أمامه غير القليل.. ولهذا هو في حالة سباق مع الزمن.. يريد تأمين المستقبل بالكامل لصالحه.. وقد ظن الفرقاء في الوطن أن الرئيس المنتخب د.محمد مرسي هو رئيس لكل المصريين.. لا للإخوان فقط وفي أعقابه تيار الإسلام السياسي في معظمه.. لكن خاب ظن العشاق كما يقول شكسبير العظيم. في ظل هذا المناخ المحموم، والمأزوم، والمعبأ بالدعاية والدعاية المضادة، يطالبون 'الإخوان'، الشعب بمتابعة الاستفتاء علي مسودة الدستور.. تلك المسودة التي وعد د.مرسي بأنه لن يمررها إلا بعد أن تحظي علي التوافق السياسي.. وكبقية وعوده السابقة من إعادة تشكيل التأسيسية إلي تشكيل الحكومة وانت طالع.. وكبقية الوعود السابقة فقد تبخر التوافق وتطاير في الفضاء البعيد أمام غبار من يسمون أنفسهم بالغالبية- وهو أمر مشكوك فيه- ليفرضوا الاستفتاء علي الشعب. لكن كيف يأتي الاستفتاء والبلاد منقسمة علي نفسها إلي فسطاطين؟! كيف يأتي الاستفتاء والسلطة القضائية في المجتمع معطلة وبنسبة تفوق 80٪ ؟! كيف يأتي الاستفتاء وشباب الثورة مقصي، ومهمش، وليس له دور - بل وتتزايد البطالة وسط الشباب بصورة مرعبة؟! كيف يأتي وشعارات الثورة ضرب بها عرض الحائط من عدالة اجتماعية، وكرامة، وحقوق الفقراء بالأساس؟! كيف يأتي وحقوق المرأة تتراجع فيه للخلف وكأنها ردة ثانية، فتختفي مساواتها بالرجل تحت ضغط التأويلات واستخدام الدين في تكريس تبعيتها للرجل؟! كيف يأتي وقد أقر بألا يمثل المواطن العادي أمام قاضيه الطبيعي وإنما أمام محاكم عسكرية؟! وأخيرًا كيف يأتي وقلب الأمة متصدع بين الأخ وأخيه والابن وأبيه، والأم وأسرتها؟! إن أخطر ما يواجهنا اليوم وبعد أن قطع قطار الثورة مشواره ويكاد يقف بنا علي محطة العام الثاني لها في 25 يناير 2013.. لنسأل أنفسنا ونحن مصعوقون.. مَن السبب؟ من الذي خالف المسار وخطفه في اتجاه آخر؟! من المسئول عن هذا التصدع الكبير التي تعانيه الأمة، وهذا الاختلاف البيّن في الآراء والمواقف والمبادئ بين مؤيد ومعارض؟ ثم تلك الفتنة التي تسري في البلاد.. وتقلب القلوب باسم الدين، والدين منها براء؟! لقد استخدمت تلك الفتنة في زمن المخلوع حيث حاول نظامه القمعي والاستبدادي الإيقاع بين ما يسمي عنصري الأمة 'المسلم والمسيحي' ولكن تلك الفريّة باءت بالفشل.. رغم أنها لا تزال خامدة تحت الرمال لأنه ليس هناك دواء ناجح لمعالجتها واجتثاثها من جذورها بالقانون.. فلا يزل النظام ساري المفعول حتي اليوم.. وللأسف اليوم أضيف للرصيد القديم فتنة أشد وأنكي.. فتنة بين المسلم وأخيه المسلم!! وها هي صيحات نكراء تدعي أن 'قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار' هكذا تحددت أمام تساقط الشهداء في حصار الاتحادية.. وهي تفرق بين شهداء الجماعة الدينية والإخوان تحديدًا الذين كانوا السبب في العنف وإسالة الدماء!! وشهداء الجماعة الوطنية الأخري علي اختلاف انتماءاتها.. أي قوي المعارضة مجتمعة. وها هي تلك القوي الإسلامية تستقتل في سبيل تمرير هذا الدستور 'الفتنة أو منتصف الليل'.. وهو يضع الأساس لإقامة الدولة الدينية الأمر الذي يذكرنا بولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.. كلا علي كل الأحوال.. رغم العوار الشديد في محاولة إرغام المصريين علي هذا الاستفتاء ذاك الدستور في مشهد مؤلم ومحزن.. بدلًا من أن يكون مشهدًا داعمًا للأفراح والتفاؤل كما هي العادة في سائر البلدان الأخري. أما نحن فيكفي أن نتأمل المشهد الذي يشاركنا العالم بأسره في رؤيته.. وهو مشهد حزين.. أسيف.. متراجع.. نعم كنا حقًا ملهمين للعالم في 11 فبراير 2011.. أما اليوم وبعد أن قاربنا علي العامين من عمر الثورة.. فنحن مدعاة للإشفاق وطلب الرحمة بعد أن حولونا عنوة في 'زمن الإخوان' إلي الإخوة الأعداء!!