شاهدت مؤخرا اعادة إحدى حلقات برنامج صاحبة السعادة الذى استضاف الفنان حميد الشاعرى ونجوم الغناء فى فترة الثمانينات والتسعينات. وربما لا تعرف الأجيال الجديدة شيئا عن الشاعرى، لكن من نشأ وعاصر تلك الحقبة لا يمكنه نسيان ذلك الشاب الوسيم الخجول القادم من ليبيا، حاملا جيتاره، عازفا على أوتاره أنغاما غير مألوفة، ساعيا وراء أحلام لا حدود لها، والذى تحول خلال سنوات قليلة إلى رائد موسيقى الجيل فى ذلك الوقت، وسط هجوم ضارى من النقاد وكبار الوسط الفنى يتزعمهم الملحن حلمى بكر معللا هجومه بأن الشاعرى لم ينل شهادة أكاديمية فى الموسيقى، وأن مظهره غير لائق (فقد تخلى عن ارتداء البدلة الكلاسيكية مستبدلا بها الكاجوال وتبعه جيل من الفنانين)، بالإضافة إلى أمواج من الاتهامات بأنه سبب افساد وتدهور الذوق العام، وتشويه التراث الغنائى العربي!! وأعلنت الحرب الشعواء ضده، بل وصل الأمر لإيقافه عن الغناء فى مصر (أوائل التسعينيات) رغم تربعه على القمة فى ذلك الوقت!! وتجاهل المعارضون أن الشاعرى هو السبب الوحيد فى تحويل اهتمام الشباب المصرى والعربى من الموسيقى والأغاني الأجنبية إلى الفن العربى. وكان نجاح الشاعرى والتفاف الجمهور حوله أبلغ رد على منتقديه، مما أجبر بكر على التعاون معه فى نهاية التسعينات (أوبريت الحلم العربي) مذعنا لرياح التجديد الموسيقى بقيادة الشاعرى. فالشاعرى لم يستسلم لعدم انتشار ألبومه الأول (عيونها) الذى قدمه بمشاركة فرقته المزداوية، وأصدر ألبومه الثانى (رحيل) الذى أشعل شرارة النجاح، ثم توالت الألبومات التى جعلته نجم الشباب الأول. وتعاون أيضا مع غيره من النجوم مثل محمد منير الذى شاركه فى غناء (أكيد)، وعمرو دياب الذى قدم له لحن وتوزيع (نورالعين) وفاز بها عمرو بجائزة World Music Award، ولم يكتف الشاعرى بالغناء والتلحين والتوزيع بل قدم مواهب غنائية أصبحت نجوما عبر أوتاره، فاستحق لقب (الكابو)Capo وهى كلمة ايطالية تعنى القائد أو الزعيم. وجاءت الحلقة لتعيد للملايين ذكريات ذهبية، ارتبطت بأغنيات الشاعرى وزملائه، وحملت إلينا روائح العصر الشاعرى، فموسيقاه لها نكهة مميزة تعرفها الأذن فور سماعها، وكالمعتاد كان وجوده كافيا لتجمع نخبة من فنانى هذا الجيل، فجاءت حنان المختفية منذ سنوات طويلة، علاء عبد الخالق، ايهاب توفيق، فارس، وغيرهم لقد دقت الحلقة ناقوس الذكريات، وما أحلاها من ذكريات، أغنيات تحمل كلمات بسيطة ومعانى عميقة، مع ألحان تتسلل إلى القلب لتغمره بالسعادة. لقد اندهشت والدتى حينما سمعتنى أغنى معهم فسألتنى بتعجب هل مازلت أذكر تلك الأغنيات؟! رددت بأنها الأغنيات الرابضة فى وجدان ذلك الجيل، قد يظن المرء أنها منسية لكنه يفاجأ بنفسه (تدندن) مع الشاعرى ومرافقيه، فلم يطو النسيان كلماتها وألحانها!! لقد ظهر حميد الشاعرى فى فترة شهدت ما أسميه فجوة فنية، الكبار يستمعون للتراث العربى الممثل فى أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم والأطرش وغيرهم، والشباب يهتم بما يقدمه الغرب وينجرف إليه!! وواجه الشاعرى – بطرق غير مباشرة وربما غير مقصودة - ظاهرة تغريب الهوية الثقافية العربية، باهتمامه بتقديم الفولكلور وإعادة تقديم أغنيات العمالقة حليم وشادية وفوزى ..الخ بشكل موسيقى جديد يناسب روح العصر ليعرفها الجيل الذى كان منفصلا تماما عن الموسيقى الشرقية فى تلك الفترة، مما أدى لجذب الشباب العربى مرة أخرى بعيدا عن الفن الأجنبى وما يحمله من أفكار وقيم قد لا تناسب مجتمعاتنا الشرقية. لقد قاد الشاعرى سفينة التغيير الموسيقى ببراعة قبطان ودقة مايسترو يؤمن ويحب ما يفعله فاستحق التميز وحب الجماهير. لقد تغنى الشاعرى ومعاصروه -على سبيل المثال - بحب الوطن بشكل غير تقليدي، كانت أغنياته الوطنية كأنها غزل للحبيبة، أجيلك من ورا الأحزان، حنين واشتياق(فارس)، بس تعيشى (علاء) .. فترسبت فى أعماق محبيهم ومازالت حتى الآن تتردد فى أذهانهم لتثير مشاعر عشق الوطن والانتماء إليه، فقد حملت أجيال العصر الشاعرى فى وجدانها المشاعر والاحاسيس الراقية عبر سنوات وسنوات. ولهذا ينبغى الانتباه لما يسمعه صغار السن، فهذا هو ما يشكل وجدانهم، فهل يمكن تصور الجيل الحالى بعد 20أو30 سنة؟! ماذا سيكون محتوى الذاكرة لديهم؟! ضوضاء المهرجانات ونشاز الأصوات والكلمات المبتذلة والايحاءات الفجة وصور الرقص القبيح بالسنج والسيوف!!!! فهل هذا يليق بأحفاد كلثوم وحليم وجاهين والابنودى ومنيب وخيرت والشاعرى؟!!