شهر واحد في العام، فيه ليلة خير من ألف شهر، صوم نهاره سر بين العبد وربه لا يطلع علي تمامه وكماله إلا رب العزة سبحانه وتعالي الذي يخبرنا بعظم أجر هذا الصوم في الحديث القدسي 'كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به' وقد أورد النووي - رحمه لله - عدة أقوال في شرح هذا الحديث فقيل: إن الصيام هو العبادة الوحيدة التي عُبِدَ لله بها وحده ولم يعبد أحد سوي الله بالصيام، أي لم يتقرب المشركون علي مختلف العصور لمعبوداتهم بالصيام، وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه حظ فيه، وقيل: إن لله تعالي هو المتفرد بعلم ثوابه وتضعيف الحسنات عليه. ولأنه عبادة ثوابها عظيم ولأنه شهر الرحمة والغفران الذي قال فيه رسول لله صلي لله عليه وسلم: 'من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه' وفي قول آخر'من صام' وقال فيه أيضا: 'الصلوات الخمس والجمعة إلي الجمعة ورمضان إلي رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر'. ولهذا فقد اعتاد الصالحون اغتنام أيامه، بأن تكون لعبادتهم خصوصية وتفرد، فهم وإن كانوا ليسوا من اهل الكسل عن العبادة طوال العام، وإن كانوا من أهل الصيام والقيام علي الدوام، إلا أن مضاعفة الطاعات وختم القرآن في شهر القرآن من أهم القربات الي الرحمن، فهو شهر الهمم العالية والمعدة الخاوية والروح الصافية، فعلهم دون شك ليس كفعلنا، فلا إفراط في طعام ولا قبول بتمرد الجسد إذا ما اشتكي من شدة التعب من طول القيام، قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر بن الخطاب الناس لقيام رمضان قدم أبي بن كعب وتميما الداري يصليان بالناس فكان القارئ يقرأ بالمائتين 'أي مائتي آية' وكنا نعتمد علي العصي من طول القيام ولا ننصرف إلا في فروع الفجر' وفي المناهل الحسان 'عن الأعرج'، قال: كان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأي الناس أنه قد خفف، 'وعن عبد لله بن بكر' قال: سمعت أبي يقول: 'كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام، مخافة فوت السحور'. وكان الشافعي رضي لله عنه يختم في رمضان ستين ختمة قرآن، وروي عبد لله بن عباس رضي لله عنهما قال: كان رسول لله صلي لله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة في رمضان حتي ينسلخ 'ينقضي الشهر' يعرض عليه النبي صلي لله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فكان المؤمنون الصالحون يكثرون من الصدقات اقتداء بفعل رسول لله صلي لله عليه وسلم، كما كانوا يحرصون علي تفطير الصائمين، لينالوا بذلك مثل أجور من فطروهم كما جاء في الحديث: 'من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا'.