بين الثالث من أغسطس للعام 2011، والثاني من يونية 2012، محطات فارقة، عشت وقائعها في متابعة ما سمي ب 'محاكمة القرن'.. محطات حفلت بلحظات فارقة، واكبت حالة 'اللااستقرار' التي شهدتها البلاد، منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011. فمنذ جلسة المحاكمات الأولي، نظرت من داخل قاعة المحكمة التي عقدت بأكاديمية الشرطة، إلي وجه أول رئيس مصري يمثل أمام القضاء، داخل قفص المحاكمة.. يومها كان المشهد فريدًا، لم أصدق كغيري من ملايين المصريين، أن حاكمًا مصريًا يمكن أن يقبع داخل قفص المحاكمة.. لذا كان شعوري كغيري من أبناء الشعب المصري أن الثورة المصرية حققت المستحيل، وأحدثت تحولا غير مسبوق في التاريخ، وتولد لدينا يقين، أن دماء الشهداء لن تذهب سدي، بل إن يوم القصاص العادل قادم لترتوي القلوب المكلومة وتطمئن. ومنذ الثاني والعشرين من فبراير الماضي وما أن حجزت محكمة جنايات القاهرة القضية المتهم فيها الرئيس المخلوع ونجلاه ووزير داخليته وأعوانه للحكم بجلسة السبت الماضي كانت الآمال تراودني كغيري في أن حكم القضاء سوف يأتي ناجزًا، وشافيًا للأفئدة والنفوس التي نزفت حزنًا، وألمًا منذ تضرجت ساحات الميادين المصرية بدماء شباب الثورة. وبقدر التفاؤل الذي كسا مشاعري وأنا أتوجه إلي محكمة الجنايات منذ صباح السبت الباكر، بقدر ما كان ما جري، وما حدث صادمًا للمشاعر، ومحبطًا للآمال. لا تعقيب ولا تثريب علي حكم القضاء، ولكن غصة انتابتني، وألمًا تملكني، وشعورًا دفينًا بالمرارة اجتاح أوصالي، حتي إنني شعرت وأنا داخل المحكمة بأن صاعقة قد أصابتني فيما راحت صور الشهداء، والمصابين أمامي وكأنها ترفرف من حولي في ساحة المحكمة. رحت أهتف من أعماقي وسط الضجيج الذي عم جنبات المحكمة عقب صدور الحكم: أين حقوق الشهداء؟.. إذا كان هؤلاء الذين برَّأتهم المحكمة لم يفعلوها فمن إذن الذي فعلها؟.. رحت أتذكر أمهات الشهداء وهن يندبن وجوههن في ساحة ميدان التحرير وميادين مصر كافة، كان قلبي يخفق لدموعهن، أشعر بلوعتهن، وصدمتهن بمثل هذا الحكم! هل ذهبت تضحيات شباب الثورة سدي؟ وهل أسدل الستار علي ما دفعوه من أثمان علي طريق تحرير مصر.. الوطن.. والأمة.. والتاريخ؟ لم يجذبني ضجيج الاشتباكات والمناوشات التي كانت تجري من حولي بقاعة المحكمة، بل تعلقت مشاعري بالشارع المصري وشبابه وقواه الحية، التي لن تقبل بما حدث، وسوف تنتفض مجددًا، كما انتفضت في الخامس والعشرين من يناير 2011، وسوف تدور البلاد في حلقات مفرغة، تدفع فيها من دم أبنائها الكثير، وتنزف من اقتصادها، وقوتها التي تراجعت، وهيبتها التي تآكلت، والضحية هي المواطن البسيط الذي يدفع فاتورة كل ما يجري من أحداث تشهدها البلاد. غادرت قاعة المحكمة وقلبي مليء بالأحزان، وعقلي مزدحم بالأفكار، ومخاوفي تتزايد علي وطن يترنح علي وقع جملة من الارتباكات التي تمثل المشهد الأبرز في أوضاعنا المضطربة.