بين صراع علي المقعد الرئاسي.. وانقسام في لجنة إعداد الدستور.. بين صدام يتصاعد في الشارع بين القوي السياسية المختلفة.. وعراك يتكرر في كل لحظة.. بين انفلات أمني، وإعلامي، وتراجع اقتصادي، وفي المجالات كافة.. يبدو المشهد المصري برمته عند لحظة افتراق خطرة. نزاعات.. ملاسنات.. عمليات تشكيك.. تسير علي قدم وساق.. مرشحون يقتربون من مقعد الرئاسة.. ثم ما يلبثون أن يتقهقروا بفعل افتقادهم شروط الترشح.. دعاوي قضائية تلاحق الجميع، وكأن عاصفة من الصراعات تخيم علي الوسط السياسي بكامله. سفينة الوطن تبحر وسط أمواج تتلاطم.. تدفعها الرياح صوب شطآن قاحلة.. تقف عند حافة منحدر سحيق، لا تعرف بداياته من نهاياته. أسابيع خطرة.. تقطعها سفينة الوطن.. وسط موجة من المخاطر.. قد تدفع بها إلي الفوضي العارمة، واللانهائية، بحسب ما ذهب إليه الباحث والمفكر د.'رفعت لقوشة' الأستاذ بجامعة الإسكندرية، الذي التقته 'الأسبوع' في حوار، هو أقرب ما يكون إلي إشارات حمراء، تحذر، وتنذر مما هو قادم إذا لم يستعد المجتمع رشده، ويعود لقاعدة البناء الحقيقية، لواقع بات مستقبله مفتوحًا علي كل الاتجاهات. كيف تقرءون المشهد السياسي الراهن في ظل حالة التصادم والجدل التي عمت جميع المواقف والاتجاهات؟ الموقف شديد الخطورة الآن، وينذر بالأسوأ.. فنحن نقترب من مشهد يبدو فيه الشعب مدعوًا إلي انتخاب رئيس غير معروف، وغير محددة صلاحياته مسبقًا.. وهذا يعني أننا نقترب من حالة توصف سياسيًا ب'الفوضي الشاملة'. وعلي أي أساس بنيتم هذه الرؤية شديدة التشاؤم؟ يؤكد ذلك عدد من الأمور.. علي النحو التالي: 1 - أن الإعلان الدستوري لا يصلح ألا يكون قاعدة لصلاحيات الرئيس القادم. 2 - أن إعادة فك القيد عن دستور '71' سوف تصاحبها تداعيات سيئة للغاية.. فقد أسقط الشعب ديكتاتورًا بصلاحيات شبه مطلقة.. ثم يبدو الآن مدعوًا لانتخاب 'ديكتاتور' بصلاحيات شبه مطلقة ايضا. أيضًا هناك مشكلات سوف نذهب إليها حال انتخاب رئيس بدون صلاحيات.. فهذا الرئيس سوف يبدأ انتخابه يقينًا قبل إعداد الدستور الجديد.. فكل الشواهد تؤكد أننا لن نستطيع إعداد دستور جديد أو الاستفتاء عليه قبل '23' مايو المقبل وهو موعد الانتخابات الرئاسية في جولتها الأولي.. وعلي ذلك فالموقف الآن يذهب إلي ما هو أسوأ.. رئيس بدون صلاحيات محددة ومعروفة سلفًا.. كيف يمكن أن يملأ موقعه بوصفه قائدًا أعلي للقوات المسلحة؟! وماذا يعني فك القيد عن دستور '71' والإشكاليات التي يمكن أن يخلفها؟ فك القيد عن دستور '71' سوف يأخذنا لإشكالية مستترة حتي الآن وهي أن التعديلات التي جرت علي دستور '71' قبل ثورة '25' يناير 2011، استبقت لسبب أو لآخر كان يخص في حينه لجنة السياسات للقوات المسلحة مهمة واحدة، هي حماية حدود الوطن، ولم تلحق بها حماية الشرعية كما هو معمول به في كل دساتير العالم.. وبالتالي نحن سوف نكون أمام أزمة عارمة وعاتية للشرعية تتمثل في: أولا رئيس منتخب غير معروفة صلاحياته. ثانيًا في حال فك القيد عن دستور '71' فإن القوات المسلحة لن تكون مسئولة عن حماية الشرعية عكس ما هو معمول به في كل دساتير العالم. ثالثًا برلمان مطعون في قانون انتخابه. رابعًا دستور جديد لا يمكن تصور الأفق الزمني للانتهاء منه. هل المشكلة هنا في عدم صدور الدستور أم في الآثار التي يمكن أن تترتب علي عدم صدوره في المدة المحددة؟ بالفعل يواجه الدستور إشكالية أخري.. فإذا انتهت الستة أشهر المقررة، ولم تستطع اللجنة التأسيسية المشكلة إعداد الدستور وفقًا للتعديلات الدستورية، فلا توجد إجابة عن سؤال: ماذا ينبغي أن يحدث عندئذ؟.. لأن التعديلات الدستورية صمتت عن الاجابة علي هذا السؤال.. فقط حددت فترة الستة أشهر ولم تقل ماذا لو انتهت الستة أشهر ولم يتم الانتهاء من التعديلات الدستورية. وما الآثار التي يمكن أن تنجم عن هذا الموقف؟ في تقديري الشخصي.. وإزاء هذا المشهد، فإن مصر في طريقها إلي 'فوضي بلا عودة'.. خاصة إذا اختص الرئيس المنتخب نفسه بحق توقيع الاتفاقات الدولية دون عرضها علي البرلمان.. بل أذهب إلي الأسوأ قبل أن أقدم اقتراحي في هذا الشأن. الأسوأ قد ينتهي إلي احتكاك بالسلاح علي طول مصر وعرضها, لأن أزمة الشرعية تفتح الطريق لذلك.. وقد تفتح طريقًا آخر إلي انسلاخات من جسد الدولة المصرية.. ولذلك في تقديري، وكممر للإنقاذ أقترح ما يلي: 1 - أن يصدر عن مجلس الشعب قانون يحدد صلاحيات الرئيس القادم، وأن يصدق علي هذا القانون المجلس الأعلي للقوات المسلحة باعتباره القائم بالسلطة التنفيذية. 2 - هذه الصلاحيات في إطار هذا القانون هي بالضرورة صلاحيات مؤقتة، وبالتالي فإن الرئيس المنتخب هو بالضرورة رئيس مؤقت. 3 - تنتهي مدة الرئيس المؤقت المنتخب عند إعداد الدستور الجديد واستفتاء الشعب عليه، ولا تمتد فترته لأكثر من عام. 4 - بعد إعداد الدستور الجديد واستفتاء الشعب عليه يعلن عن خلو منصب الرئيس، ويعلن فتح باب الترشح لمنصب الرئيس علي قاعدة الدستور الجديد. 5 - أتصور أن يكون من اختصاصات الرئيس المؤقت وفقًا للقانون الصادر من البرلمان أن يحال إليه اختصاص تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور في حال مرور '6' أشهر علي اللجنة الحالية وعدم قدرتها علي إعداد الدستور الجديد. وبالتالي يمكن سد الثغرة التي خلفتها وراءها التعديلات الدستورية المشار إليها سابقًا، وهذا الاقتراح قد يعيدنا إلي ممر خاص بين الأمور الحالية.. لأننا سنكون إزاء كارثة إذا تم انتخاب رئيس بدون صلاحيات.. وبموضوعية وهدوء هذا الاقتراح يصب في صالح الجميع, لأنه لا أحد يريد فوضي عارمة، ولا أحد يريد أزمة شرعية في البلاد. ولكن.. من المسئول من وجهة نظركم عن كل هذا الجدل؟ هذا الجدل يعود بالأساس إلي النص الملتبس في التعديلات الدستورية، لأنها لم تكن محكمة في كتابة النص.. هي قالت 'مجلس الشعب ينتخب اللجنة التأسيسية' هذه المادة تترك الباب للقول بالانتخاب من داخل البرلمان أو خارجه، بينما كان من المفترض أن يكون نص المادة حاسمًا بلا تأويل.. وأنا أرجح أن تعبير انتخاب يعني أن مجلس الشعب كله صار من الناخبين، وبالتالي تأتي اللجنة من خارجه.. ولكن لأن المادة غير محكمة في النص فقد تركت التأويلين علي الأرض. وهل المشكلة في تشكيل اللجنة التأسيسية فقط أم أن لها تداعيات أخري؟ الإشكالية ليست فقط في تشكيل اللجنة التأسيسية، بل هناك إشكالية مستترة، وتتمثل عندي في القدرة علي إعداد دستور جديد, لأن الدستور هو عمل إبداعي، يحتاج إلي عمق فكري، وخيال سياسي، بالإضافة إلي معرفة قانونية معمقة.. وهذه المفردات قد تغيب في الحالة المصرية الآن.. مثلا اللجنة تحدثت عن مجلس الشوري كما هو ودارت تصريحات حول بعض اختصاصاته فقط.. وهنا تكمن الإشكالية المستترة كما أري.. لأنه لا يوجد في العالم كله مجلس تشريعي ثانٍ علي غرار مجلس الشوري في مصر.. لا يوجد في العالم كله مجلس تشريعي ثانٍ تقوم السلطة التنفيذية بتعيين ثلثه.. كما أن المجلس التشريعي الثاني في العالم كله له مهمة رئيسة، تغيب تمامًا في أحاديث اللجنة التأسيسية وفي الاحاديث الدائرة خارجها، وأقصد بها أن المجلس التشريعي الثاني هو حارس اللامركزية، وبالتالي قبل أن نذهب للمجلس التشريعي الثاني لابد أن نكون قد حسمنا الأمر بخياراتنا حول اللامركزية, لأن ذلك سيعني حسم شكل المجلس التشريعي الثاني، وكيفية انتخابه، وما إذا كان اعضاؤه يمثلون 'دوائر أم محافظات'.. فهناك فرق بينهما. فالمجلس التشريعي الأول 'مجلس الشعب' يمثل دوائر.. أما المجلس التشريعي الثاني 'مجلس الشوري' فيمثل محافظات، وهذا مجرد مثال للإشكالية المستترة، وأقول في هذا الصدد إن القدرة علي اعداد الدستور الجديد غير متوافرة، خاصة أنه لم يحدث في تاريخ العالم أن يجتمع مائة لوضع دستور. وما الذي يحدث إذا في حال كتابة الدستور في الدول المختلفة؟ ما يحدث في العالم هو أن يجتمع عدد محدود من ذوي القدرة الفكرية والقانونية ليضعوا مسودة الدستور، ثم يقومون بعرض مسودته علي اللجنة التأسيسية وأعضائها.. وهنا يبدأ الأعضاء في قراءة مسودة الدستور وإدخال التعديلات اللازمة، لأن هناك قاعدة للدستور هي مسودته.. ولكن أن يجتمع مائة من أعضاء اللجنة وأمامهم أوراق بيضاء، وخلفهم لجان لينتهوا إلي وضع الدستور.. فهذا لم يحدث في التاريخ. دكتور رفعت.. كيف تتابعون ما يجري من صراعات علي المقعد الرئاسي بين المرشحين من مختلف الاتجاهات؟ عندما يتقدم مرشح للرئاسة، ومع احترامي للجميع، وهو لا يعلم حدود صلاحياته، فكأنما يطلب من الشعب أن يوقع له علي 'عقد إذعان'.. وهذا معناه أن البداية تعني الاعتداء علي حق الشعب.. ومع كل الاحترام لكل المرشحين، فلم أقرأ لأي منهم برنامجًا انتخابيًا، ولم أشاهد مع أي منهم فريق عمل معه يقدمهم للناس باعتبارهم الفريق الذي سيقدمه للسلطة التنفيذية.. كذلك لم أشاهد حملة رئاسية حقيقية.. وما نشاهده هو حملة لجمع التأييدات، وهناك فرق كبير بين الأمرين. أيضًا كل الانتخابات الرئاسية تعرف مناظرات جادة بين المرشحين ولم يشاهد الشعب حتي الآن مناظرة جادة.. لذا يبدو الأمر وكأننا في المنطقة الضبابية مع كل الاحترام لجميع المرشحين. وهل تري أن عملية انتخاب الرئيس القادم 'المؤقت' تتم بالمعايير الجارية نفسها ؟ نعم.. إن الرئيس القادم يجب أن ينتخب من بين الناس وفقًا للمعايير الحالية، وحتي نجنب البلاد الفوضي، بحيث يخوض جميع المرشحين الانتخابات علي قاعدة الرئيس المؤقت.. وهذا أدعي لإعادة ترتيب الأوضاع وفق أسس سليمة خلال فترة العام أو العام ونصف العام المقبلة.