كشفت استقالة رئيس الوزراء سعد الحريرى، خلال تواجده فى العاصمة السعودية «الرياض» حجم الاحتقان فى المشهد السياسى اللبنانى ما يعيد التذكير بأجواء الحرب الأهلية (خلال النصف الثانى من السبعينيات وحتى اتفاق الطائف فى التسعينيات من القرن الماضى)، حين راح ضحيتها طوال 15 عامًا أكثر من 150 ألف شخص وإصابة أكثر من 300 ألف وفقد نحو 17 ألف شخص، فيما قدرت خسائرها بنحو 25 مليار دولار. الحرب التى انتهت بتوقيع اتفاق الطائف عام 1989 برعاية المملكة العربية السعودية الذى نص على نزع سلاح جميع الميليشيات، وتم بالفعل حل جميع الميليشيات ما عدا حزب الله وتم وإصدار قانون العفو العام فى مارس 1991، إلا أن استمرار ميليشيا حزب الله بسلاحه ترك ذيلًا لاستمرار الصراع حتى يومنا هذا، وكان سببًا فى اعتراض «عون» وقتها ولجوئه للسفارة الفرنسية ونفيه لفرنسا طوال 14 عام من 28 أغسطس عام 1991 حتى 7 مايو عام 2005 نهاية بتوقيع «عون» لوثيقة التفاهم مع حزب الله فى 6 فبراير عام 2006 ثم اتفاق الدوحة فى 21 مايو 2008 بتشكيل حكومة وحدة وطنية. وبعد عودة رئيس الوزراء اللبنانى السابق، رئيس الجمهورية الحالى، ميشيل عون تغير الحال تمامًا مع حزب الله الذى كان عدوًا صريحًا لعون وتحول لشريك أساسى له منذ توقيع وثيقة التفاهم فى 2006 وظهر بعدها تيار المستقبل ضمن ما يسمى بقوى «14 آذار» بقيادة سعد الحريرى ليكمل مسيرة عون السابقة ضد حزب الله والتواجد السورى فى لبنان ليشتعل الصراع من جديد بين «عون» والحريرى حول الدور الحقيقى لحزب الله فى لبنان. وظلت التجاذبات السياسية سيدة الموقف فى لبنان حتى وصل الحال لفراغ رئاسى استمر طيلة عامين ونصف كاملة، وبقيت لبنان بدون رئيس إلى أن تولى ميشيل عون سدة الرئاسة فى 31 اكتوبر عام 2016 بعد حصوله على أغلبية 83 صوتًا. واستمرت المشاحنات على خلفية مشاركة حزب الله فى الحرب الدائرة فى سوريا، وتوسط أطراف إقليمية متناقضة فى معاركها مما ألقى بظلاله على الملف اللبنانى وأبرزت عملية «جرود عرسال» حقيقة دور حزب الله فى الداخل اللبنانى فكان الصراع حول أحقية الجيش اللبنانى أم ميليشيا حزب الله فى تحرير الجرود بعد أن وصل تغول حزب الله أن تفوقت قدراته القتالية على قدرات الجيش اللبنانى نفسه باستثناء القوات الجوية، وبالفعل أصبحت ميليشيا حزب الله هى المتحدث باسم الداخل اللبنانى وتنحى الجيش جانبًا وتولى حزب الله مهمة التفاوض مع جبهة فتح الشام السورية التى اشترطت الإفراج عن 4 موقوفين يحاكمون أمام القضاء العسكرى اللبنانى بتهم متصلة بالإرهاب وخروج مقاتليه للشمال السورى مقابل الإفراج عن 8 أسرى من حزب الله لدى النصرة وتبادل لجثث ضحايا من الطرفين. ثم جاء زلزال استقالة سعد الحريرى بعد زيارتين مكوكتين فى أقل من أسبوع واحد للمملكة العربية السعودية وإعلانه الاستقالة من الرياض اعتراضًا على تدخل حزب الله وإيران فى الشأن الداخلى اللبنانى. ثم رد «الحريرى» على شاشة تليفزيون المستقبل على كافة الدعاوى التى راح يرددها حزب الله وإيران ورئيس الجمهورية اللبنانى ميشيل عون عن احتجاز الحريرى فى السعودية بالكلية، مؤكدًا أنه حر الحركة وليس محتجزًا كما يقال -وأكد ذلك أيضًا وزير الخارجية الفرنسية «جان إيف لودريان»– وأضاف الحريرى أنه سيعود بالفعل للبنان فى أقرب وقت ممكن بل وأعلن إمكانية عدوله عن الاستقالة فى حال اتخذ الرئيس اللبنانى ميشيل عون من الإجراءات ما يضمن استقلالية القرار اللبنانى حيث رمى الكرة فى ملعب ميشيل عون. وهنا رد عون بهجوم كاسح على المملكة العربية السعودية وأعاد الاتهامات للسعودية باحتجاز الحريرى خاصة مع زيارة البطريرك المارونى مار بشارة بطرس الراعى للسعودية ولقائه بالملك سلمان والحريرى وإبدائه تفهمًا لملابسات استقالة الحريرى بما يعنى تضامنًا مارونيًا مع موقف الحريرى الأمر الذى أثار عون باعتباره رئيسًا مارونيًا يميل لكفة حزب الله بما يضعه وهذه الزيارة فى موقف حرج فشن عون هجومًا متهمًا إياها باحتجاز الحريرى والتدخل فى الشأن اللبنانى بما يتنافى مع استقلاله. كما اعتبر عون أن الحريرى لا يزال رئيسًا للحكومة اللبنانية لحين عودته لبيروت وشرح أسباب استقالته كما اجتمع مع رؤساء الجمهورية والحكومات السابقين وممثلى القوى السياسية المهمة لبحث الأزمة وكيفية تجنيب لبنان مزيدًا من الأزمات. أما حزب الله فقد اعتبر على لسان أمينه العام أن خطاب الحريرى المتلفز من الرياض تصعيد سعودى إلا أن نصر الله اعتمد خطابًا هادئًا هذه المرة، معتبرًا أن الحريرى لا يزال رئيسًا للحكومة داعيًا إياه للعودة للبنان. وحول تأثير استقالة سعد الحريرى أكد بيان كل من الخارجية الأمريكية ووزير الخارجية الأمريكى «تيلرسون» أن استقالة الحريرى تمثل صدمة إيجابية مطلوبة فى إطار مواجهة النفوذ الإيرانى وهناك حاجة لتنسيق الجهود المحلية والإقليمية لإعادة تجميع القوى السياسية ضد حزب الله ومنعه من تنفيذ خطته الكاملة بالسيطرة على لبنان واستمرار تدخله فى اليمن أيضًا. وحول مدى قانونية استقالة الحريرى من الرياض أشار الحريرى خلال لقائه مع تليفزيون المستقبل أنه يعى أن استقالته لم تتوافق تمامًا مع بعض الأعراف أو النمط المتبع فى هذا الشأن، لكنه أكد عزمه العودة للبنان وأن يتم الأمر بالوسائل الدستورية، موضحًا أن سبب خروج الاستقالة بهذا الشكل رغبة منه فى إحداث «صدمة إيجابية « للمجتمع اللبنانى خاصة مع عدم التزم لبنان حاليًا بسياسة النأى بالنفس، مؤكدًا أن السعودية هى أكثر الدول التى ساعدت لبنان خلال حرب عام 2006، ومشددًا على ضرورة توقف إيران عن التدخل بالشأن اللبنانى والدول العربية. وتأتى تصريحات الحريرى مع عزم الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولى فرض عقوبات على الكيانات والشخصيات الداعمة لإيران وميليشياتها سواء كانت أفرادًا أو كيانات سياسية أو مؤسسات أو دولًا لاسيما بعد تدخلاتها المتزايدة لإشعال مزيد من التوترات فى المنطقة سواء فى لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن أو مختلف دول الحليج والمنطقة العربية. أما سمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية إحدى الميليشيات المسيحية السابقة فقد سخر فى تغريده له على « تويتر» من المتباكين على الحريرى، واصفًا هذا التباكى ب«دموع التماسيح « وهؤلاء -كما يصفهم جعجع- كانوا يمعنون فى سياسة تحجيم الحريرى وكانوا يسعون لإقصائه من السلطة، ودعا من جانبه حزب الله للانسحاب من أزمات المنطقة.