كنت كل يوم أنزل فيه إلي ميدان التحرير، وأشاهد فيه الصمود والإصرار وتفاصيل المكرسين حياتهم وأرواحهم من أجل حلمهم بوطن حقيقي يقبضون علي جمرته، كنت معهم ألجأ إلي رصيف الحلم، وأسأل نفسي عن هؤلاء الذين يحاصرون الخوف، ويولد من غبار شجاعتهم شعب جديد يحمل في أوردته حواري وشوارع وناس طيبين، وكنت أكمل فيهم أسئلتي التي تصعد معهم نحو التئام الحلم، وأستغفر الله ألف مرة وأنا أشاهد وأسمع خارج الميدان من يحاول تشويههم ومن يسبهم ويتهمهم بالعمالة والبلطجة، وكأن من منح لنفسه حق السب والشتيمة لا يعاني قهراً وفقراً ولا يشعر بأوجاع أمهات وآباء استشهد أبناؤهن من أجل أن نعيش نحن، فيتهمونهم بالتآمر لصالح أجندات. أستغرب من هؤلاء الذين يرون مظاهر الفقر علي مشاركين في مظاهرات واعتصام التحرير ويعايرونهم بفقرهم وينسون أن هذا ما أصبح عليه حال تقريباً كل المصريين. كنت كل يوم في ميدان التحرير أتعرف علي واحد من أطفال الشوارع الذين كانوا يجرون تحت القصف، في أحداث محمد محمود، ويحملون المصابين والشهداء ويتلقون عنا الضرب، وفي الأيام العادية كانوا يجلسون صامتين ويتابعون بأعين مراقبة وحين أسألهم: 'بتعملوا كدة ليه؟'، يجيبون بلا تردد: عشان مصر!! الإجابة نفسها التي تلقيتها من 'طارق' شاب يعتلي عامود النور ويرفع علم مصر، حين سألته: كيف يصعد علي هذا العامود الأملس ويقف علي حاجز رفيع، مضيفاً 'تحيا مصر' و'أنا مش لوحدي.. بنبدل أنا ومايكل'!! ربما يكون سوء الفهم بين الناس الثائرة في الشوارع والناس المتدثرة في بيوتها، هو ابتعاد الأخيرة عن عامة الناس، عن همومهم وأمورهم الحياتية البسيطة. وكلامهم عن الاستقرار وتعطيل عجلة الإنتاج هو كلام أجوف لا معني له، لأن ناس التحرير ليسوا هم بالتأكيد معطلي الإنتاج، وعلي رأي شاب بسيط 'ليه هو احنا رشينا مسامير خرمت عجلة الإنتاج ووقفتها؟!' مضيفاً 'الثورة ليست مرحلة.. الثورة اختيار طريقة حياة فيها اليأس والأمل والكسل والحماس والنجاح والفشل أنا اخترت الثورة والبعض اختار الجمبري'. ولعل إجابة هذا الشاب التي تناقلتها فيما بعد مواقع التواصل الاجتماعي تكون ملخصة روح التحرير التي أكدها الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقاله الأسبوع الماضي بصحيفة ال'اندبندنت' بعنوان: 'العودة إلي ميدان التحرير' حين أكد أنه رغم كل ذلك فإن روح التحرير لم تتبخر تمامًا، و'ما زال آلاف الشباب يرون أن مهمتهم لم تنجز حتي الآن، طالما تواجد رجال مبارك علي الساحة'. علي الأرجح من يلقون باللوم والاتهامات علي ناس التحرير هم ضحية ترويج إعلامي لم يزل يعمل وفق أسس قديمة في التعاطي مع الأحداث ومحاولة تشويه الثورة المصرية وصناعها، ولا يسعني سوي الاستعانة بما كتبته المخرجة هالة جلال علي صفحتها علي ال'فيس بوك': أحترم مخاوف و ارتعاشات 'أهل العباسية'.. وأستوعب أطماع 'أهل الانتخابات'.. وأفهم حسرة 'الفلول'.. فهل كتير عليهم يحترموا 'اللي ما خافش'.. و'اللي مش طمعان'.. و'اللي قدموا عمرهم وضي عينيهم'؟ هندسة الحرية 'اللي في التحرير بيهندسوا الحرية'.. نطقها ببساطة وتلقائية تليق بمصريته وطيبته وهو جالس علي الأرض يلتف ببطانية أكثر خشونة من كفيه اللتين ارتسمت فيهما خطوط شقائه وتعبه.. عل البطانية الخشنة تمنحه بعض الدفء في ليلة شديدة البرودة شكلاً ومضموناَ.. اسمه 'أحمد' يبدو منسياً كآلاف غيره من المصريين. رهينة للفقر والقهر، لكنه قرر أن يكون الرمح في وجه من يعتدون علي آدميته هو ورفاقه. يقول أحمد: 'بيقولوا علينا شعب غلبان.. لا إحنا طيبين، لكن ما نرضاش بالذل.. كفاية بقي'. جاء أحمد من الصعيد يعمل في الفاعل، كما قال لنا، لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه حكيم، حين يتكلم فإنه لابد أن يأسرك ويشعرك بأن سنوات عمره الثلاثين منحته هوية الحكماء، وكلماته أكثر صدقاً وعمقاً من 'أشاوس' المنظرين والمحللين الذين يكتمون علي أنفاسنا يومياً.. الذين احترفوا الظهور علي كل الشاشات لينغصوا علينا أمسياتنا وصباحاتنا ويرسمون لحياتنا صوراً كئيبة بلا منتهي. أما حين تجلس في حضرة أحمد الصعيدي فتصعد إلي الوطن الحقيقي كما نحلم به وتتماهي معه كأنك صنعت معه أسواراً حاصرت الطغاة والفاسدين و'رغايين' التليفزيونات الذين يقتاتون علي دم الشهداء والنبلاء والشجعان مثل أحمد. وبالمناسبة فإن أحمد ليس 'صايع' أو بلطجياً، إنه أب ولديه أسرة أراد لها أن تعيش حياة كريمة 'زي البني آدمين' فخرج إلي التحرير، ولأنه مسئول يقول: 'أنا آمنتهم قبل مااخرج بس عايز بنتي تدخل مدرسة حلوة وتتعلم بجد ولما تكبر تلاقي لها مكان في بلدها مش تتلطم في الشوارع وتمد إيديها.. عايز بلدنا تضمنا.. مش إحنا ولادها برضه'. هندسة الحرية التي تكلم عنها أحمد بعفوية، يعيها ويدركها جيداً سيف سليمان الذي عبر حدود الخوف من مرسي مطروح إلي التحرير كما سبق أن فعل هو ورفاقه في 25 يناير، هو مثقف ولديه رؤية واضحة لفكرة الحرية والوطن ويعرف جيداً أن التواجد في التحرير ليس مجرد 'ضربة رمل طائشة' وحسبه أن غضبه كجزء من غضب التحرير هو أول الطريق لوطن لا يتوسل ناسه صدقة الحرية والآدمية. يبدو سيف سليمان وهو يجلس في خيمته التي تتصدر جزيرة منتصف ميدان التحرير وهم يتناقشون ويحكون كل حكايات الفساد التي يتصدون لها في مرسي مطروح ومستمرة حتي الآن، ويكتبون علي اللوحات شعارات الرفض والمطالبة بحقوق الشهداء وحق الحرية في وطن علي مقاس أحلامهم الطيبة، كمن يتدبرون إخراجاً لمشهد الحرية الذي يسكنهم. يقتطعون بعض الزمن من عمرهم ويضحون به من أجل أن يصلوا إلي الخلاص، لكن علي الأقل لا يبددون عمرهم في الانتظار، ينزلون إلي الميدان ويهتفون، مبادرين إلي الموت كما يفعل من يحب بلده لدرجة الموت من أجله. في التحرير رأيت كيف يتدافع الناس الذين طحنهم القهر والظلم، إلي الميدان ، جعلوه بيتاً ومسكناً لهم، وفيه الهتاف يأكلون ويشربون منه. ليس أمامهم وأمامنا سوي الحرية ولا عودة إلي دواخل الحيطان المظلمة. هندسة الحرية، هي كما رآها وأرسي دعائمها الشهداء في موتهم البراق وفي تفردهم في مواجهة الرصاص والغاز والغدر. الشهداء وأحرار الشوارع والميادين الذين صنعوا أناشيد للحرية وجمالاً خاصاً لصورة الوطن. ثوار التحرير المثال الذي نحتاجه للمقاومة والصمود والتصدي للباطل، الحرية تولد بصعوبة بالضبط كما يهتفون 'شدي حيلك يا بلد.. الحرية بتتولد'، والحرية موصولة بالدم لا شيء سواه، وحين مر أمامنا مشهد نعوش الشهداء في جمعة رد الاعتبار لشهداء شارع محمد محمود، بدت كل الإشارات تؤكد مرحلة الفصل التي نعيشها. المشهد وجع قلبنا خصوصاً مع بكاء أمهات الشهداء المختلط بهتافاتهن لمصر حرة، علمنا الشهداء الشجاعة وعلمتنا أمهاتهن الصبر والإصرار والتمسك بالحق. طوال فترة الاعتصام في التحرير كنت أجدهن برغم جراحهن التي لا تخمد أقوي، حين أمسك يد إحداهن لا أعرف من فينا تتشبث بالأخري. هي التي تبدو كأنها تنهض من قاع الأساطير وتحثنا جميعاً علي الصمود، أما أنا التي أمشي علي مهل فمرتبكة خطواتي كثيراً بين أحلامي وواقعي العنيد. إحداهن تصرخ 'أخدوا ابن عمري.. يا بلادي عايزة أيه تاني.. دم تاني من ولادك عشان تعيشي'، وأخري جاءت من الصعيد تقول لزميلتنا عزة إبراهيم 'بيعرضوا علي 30 ألف جنيه عشان ابني.. اتفو'. وكما كان الإبداع هو سلاح الثورة المصرية الأهم. إبداع في مواجهة الموت..وانتظاره ومراوغته. إبداع في الهتافات والأغنيات.. إبداع في النكات والقفشات.. كان إبداع الامهات اللاتي أطلقن الزغاريد بينما يشيعن الأبناء، كما فعلت والدة الشهيد أحمد سرور الذي دهسته سيارة الداخلية عند مجلس الوزراء والتي أقسمت ألا تغادر الميدان إلا بعد تحقيق مطالب الثورة ثأراً لابنها ولكل الشهداء.. الناس الذين اختاروا التحرير لم يكن تضييع وقت أو ضرباً لاستقرار البلد، كما يدعي إعلامهم، ولكن لاستكمال ثورة زرعت الأمل فينا ثم سرقها المحترفون وحصدوا هم ثمن دماء الشهداء في ميدان التحرير وكل ميادين التحرير في مصر. وكما يقول فهمي هويدي:" المجتمع لا ينبغي له أن ينسي فضل أولئك الشهداء وغيرهم من المصابين وأياديهم البيضاء عليه. أدري أن ملايين آخرين أسهموا في ذلك. لكن الشهداء والمصابين هم أكثر من تحمل الغُرم ودفع الثمن. بالتالي فإن إسهام المجتمع بأسره يظل واجبا أخلاقيا ووطنيا. وإذا كان ذلك واجب كل فرد فإنه أوجب علي القادرين، الذين يغيب أكثرهم غيابا شبه كامل عن ساحة المسئولية الاجتماعية.