في ميدان التحرير.. هذا الجزء الحقيقي المحرر من أرض مصر، يختبر المتظاهرون والمعتصمون أشكالاً مختلفة من الحرية والتعبير عن الرأي والقوة والتلاحم الوطني، وربما نستطيع أن نقول بلا مبالغة هم أيضاً يختبرون فكرة الحكم الذاتي.. شعب جديد لا يتخلي عن ذاته وحقوقه وقناعاته بحرية صنعها منذ الخامس والعشرين من يناير. شباب وفتيات يتصدرون المشهد وهم ينظفون الميدان وينظمون المرور ويقومون بالتفتيش والتأمين الصارم لمداخل ومخارج الميدان في ظل الغياب الأمني المتعمد، وفوق كل ذلك يخترعون أشكالاً مبهرة للصمود.يساريون وإسلاميون، إسلاميون ومسيحيون، كتاب وفنانون، مصريون علي اختلاف أعمالهم ودياناتهم.. لكلّ حصته من الثورة ودوره في التحرير. 'لا بد من الصمود'، يقول لي سيف سليمان 'حركة 25 يناير بمطروح' الذي جاء من مطروح ليشارك في حماية الثورة وتحقيق مطالبها حتي آخر نفس، حسب توصيفه، مضيفاً: أخطأنا حين تركنا الميدان بعد التنحي ولن نكرر هذا الخطأ مرة أخري. ويؤكد كلامه عم أحمد 'فلاح من الشرقية'، هكذا اكتفي بتعريف نفسه بصوت تملؤه المرارة ونظرة حادة تعبر عن إصرار لا بديل له. عم أحمد الذي يسير سعيداً في وسط الميدان. الرجل الستيني، مبتهج بأنه يشهد هذا اليوم ويقول: 'كلنا هنا عشان نحس مرة واحدة بقي في حياتنا ان احنا بني آدمين.. أنا باحمد ربنا ليل نهار عشان خلاني أعيش وأشوف يوم زي ده.. يوم تقوم فيه ثورة لا وكمان لسة مكملين وماحدش هيقدر يمنعنا عن حقوقنا تاني'. 'أنا فرحان أوي بشعب مصر.. بنفسنا وبشبابنا وبعزيمتنا وإرادتنا القوية'، هكذا بادرني حمدي عبد القادر 'مدرس' وأضاف: 'باشتغل في التدريس من 20 سنة وكان عندي أمل في ان الأولاد الصغار اللي بادرس لهم هيعملوا معجزة، وعملوها خلونا كلنا نخرج للميدان ونبطل سياسة المشي جنب الحيط اللي كنا بنزرعها فيهم واللي أصلاً ورثناها أباً عن جد.العيال اللي كان أهاليهم بيقولوا لهم هتعمل _إيه يا مفعوص إنت وهو.. طلعوا مش مفاعيص وهمة اللي خدوا بإيدينا لبر الأمان والحرية، وكان لازم نيجي تاني الميدان ومش هنسيبه لأننا خلاص اتعرفنا علي نفسنا وعرفنا ان حقوقنا مش هناخدها إلا هنا في الميدان اللي منح الشعب شرعيته'. 8 يوليو يوم حافل في الميدان سبقته تجهيزات وترتيبات واضحة مساء الخميس حين نزلت التحرير بعد منتصف الليل وكان الميدان علي أشده. العديد من الشباب يقضون ليلتهم في الميدان في ظروف صعبة ينظمون المرور بأدب جم وآخرون يوزعون منشورات دعم الثورة كل علي اختلاف انتمائه السياسي والحركي. وحتي اعداد المنصات الذي واكبه بعض المشادات خصوصاً مع إصرار الإخوان المسلمين علي تخصيص منصة لهم وحدهم، إلا أن ذلك تلاشي مع حماس الإبقاء علي الهدف الأسمي وهو 'الثورة أولا' والذي من أجله وحد الجميع الموقف، خصوصاً بعد أن شهدت الساحة السياسية بعض الخلافات البارزة بين القوي السياسية، خصوصاً مع طرح الدستور أولاً أم الانتخابات. المهندس ممدوح حمزة الأمين العام للمجلس الوطني المصري: لم نتنازل عن أهدافنا وعن طرحنا للدستور أولاً ولكننا أجلناه لمدة يوم واحد لأن هدف الحفاظ علي الثورة ومطالبها هو الغالب. تحل لحظات غضب عندما يتحدث والد أحد الشهداء، بعد الصلاة المسيحية التي نظمت قبل صلاة الجمعة مباشرةً. يصرخ الرجل: 'دم الشهداء أمانة كلنا هنتحاسب عليها. أولادنا ماتوا عشانك يا مصر ودلوقت بيقولوا علينا بلطجية. احنا اللي قدمنا أغلي ماعندنا فداك يا مصر'. سيدة عجوز تستند إلي جدار وتنظر إلي السماء وتدعو 'ربنا يحميكو ياولادي'. أمل فتاة صغيرة '20 سنة' تقول 'أنا هنا بمفردي أبحث عن أصحابي لكني أشعر باطمئنان وسط الزحمة، لا أثر للتحرش في التحرير، حتي أنني وجدت رجلاً اخترع درعاً بذراعيه ل حمايتي'. رجلاً يحمل طفلته الصغيرة وهي ترفع لافتة 'عايزة حقي'. خيام كثيرة توسطت الميدان وجمعت فيها مصريين أصروا علي الحضور والتحدي. وعائلات توافدت بأطفالها، وكان حضور المرأة واضحاً وداعماً.. سيدات حرصن علي المشاركة مع أسرهن. أميمة وبناتها نور وهيا: 'جئت ببناتي وهذه أول مرة في الحقيقة أنزل فيها للميدان. كنت طول الوقت أتابع الأخبار وأنا سعيدة إن فيه ثورة في بلدي لكن الآن قررت أن يكون لي دور وأن أعلم بناتي درساً مهماً في الانتماء والوجود والحفاظ علي ثورة قامت من أجلنا'. بعد ألم العنف الذي واجهه أهالي وأسر الشهداء وبعد حسرة اخلاء سبيل والإفراج عن ضباط الشرطة المتهمين بقتل الشهداء في السويس ومرارة أحكام البراءة لعدد من الوزراء. المتظاهرون في التحرير رسموا صورة أسطورية لشعب يرفض أن 'يضحك عليهم أحد'، والمعتصمون يزيدون بهاء الصورة. تتردد في الميدان الأغاني الوطنية وأغاني المقاومة مما يذكرنا بأجواء الثورة الأولي. الجميع يوحدهم الشعور بضرورة التغيير، واكتشافهم لأنفسهم وأنهم وحدهم شعب مصر هم من لهم الكلمة الفصل بما يرضيه. كل ذلك في ميدان خلا من السلطات، ولكنهم قادرون علي تنظيم حياتهم بطريقة فعالة متجاوزين الطبقية والطائفية.