لفترة طويلة، سيطرت علي عقولنا عبارتان:'أنا مالي'.. و'مش وقته'..العبارة الأولي يستند إليها عامة الناس، أو هي المبدأ الذي يحكم تصرفاتهم.'أنا مالي'.. كانت الحل السحري للتغلب علي الشعور بالقهر.. الكل كان يستخدمها ليحمي نفسه من بطش الرئيس.. سواء كان الرئيس في العمل أو أمين الشرطة، نهاية برئيس المباحث. ببساطة كان المواطن البسيط يفرِّط في كل حقوقه ويقنع نفسه أنه صاحب وجهة نظر.. ليكون التفريط والتنازل في إطار يبدو منطقيا أو مقنعا بالنسبة له. في المقابل كانت تفعل النخبة نفس الشيء. لكن باستخدام عبارة أخري.. فكيف يقول السيد المفكر 'أنا مالي'، وهو مفكر؟!.. بحث عن كلمة أخري فلم يجد أنسب من عبارة 'مش وقته'.. كان يستخدمها أحيانا لمهادنة السلطة وتحقيق بعض المكاسب الشخصية.. وأحيانا أخري لعدم الدخول في قضايا بعينها، ولكن في إطار 'يبدو' فكريا.. وأيديولوجيا. وإذا اعتبرنا أن خروج الناس للشوارع والميادين أثناء ثورة 25 يناير كان بمثابة التمرد علي 'أنا مالي' لا تزال النخبة المصرية أسيرة 'مش وقته'.. ولا تزال قضية الاحتقان الطائفي مؤجلة بقرار من النخبة ومباركة من الدولة. لا يمر شهر إلا ونجد أنفسنا أمام حادث طائفي لكن، 'مش وقته'.. 'محمد ومينا أصحاب.. وأم أحمد بتطبخ مع أم بطرس.. انتو نسيتو حرب أكتوبر'.. خطورة الأمر هذه المرة أن مصر الدولة لا تزال في غرفة الإفاقة.. وأن النخبة السياسية ما زالت أسيرة مصالحها الضيقة وهو ما قد يصل بنا إلي نفق حرب أهلية.. وهو أيضًا ما يتطلب من كل القوي مناقشة الأزمة بجدية قبل فوات الأوان.. بعيدا عن محمد ومينا وحرب أكتوبر، ودون تقديم كبش فداء ربما يكون هذه المرة المندسين، أو التليفزيون المصري!!. يا سادة العلاقة بين عنصري الأمة ليست علي ما يرام.. النار تحت الرماد.. والطرفان محتقنان.. ولن أغازل هنا أحدا بعبارات ترضي جميع الأطراف.. حتي لو اتهمت بأنني من المندسين الذين يشعلون النار!!!.. لأن أولي خطوات العلاج هي الاعتراف بالمرض. الفتنة الطائفية لها أطراف ثلاثة: الطرف الأول: مجموعة من المسيحيين احترفت الشعور بالظلم والاضطهاد ووجدت في ذلك وسيلة فعالة لتحقيق مطالبها سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة.. ولا مانع عند هذا الطرف من مغازلة الولاياتالمتحدةالأمريكية أو التلويح بها في إطار تحقيق الحد الأقصي من المكاسب. الطرف الثاني: مجموعة من المسلمين احترفت لعب دور الأغلبية الدينية صاحبة الدور في حماية الإسلام أو هكذا تصورت، كنوع من أنواع تحقيق الذات. الطرف الثالث: يتمثل في النظام الحاكم وهو بالمناسبة لم يختلف هذه الأيام في التعاطي مع الفتنة الطائفية عنه أيام النظام السابق فالكل يعالج الأزمة وعينه علي الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب المسيحي. الطرفان الأول والثاني يستغلان أجواء ما بعد ثورة يناير لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والتأسيس لأمر واقع جديد قبل عودة الدولة.. أما الطرف الثالث فطرب لعبارة 'الجيش والشعب إيد واحدة' حتي أصبح غير قادر علي اتخاذ موقف حاسم حتي لا يغضب أحدًا، بل إن المؤتمر الصحفي للمجلس العسكري راح يفتخر بما لا يدعو للفخر ويقول: الجنود لا يمتلكون إلا العصي وذخيرتهم فشنك. الطرف الأول: وأنا هنا أرد القارئ لحلقة برنامج 'أجندة مفتوحة.. الحالة الطائفية في مصر' علي ال 'بي بي سي'. بدأت الحلقة بكلمات مقتضبة لمقدم البرنامج 'زين العابدين توفيق' عن الأوضاع المتأزمة في مصر.. بعدها تقرير عن اليوم السابق لأحداث ماسبيرو ويظهر فيه القس فيلوباتير جميل يخطب في مجموعة من الإخوة المسيحيين.. وأنا هنا لن أصف ما قاله ولكن سأسرده بين قوسين: 'هنحضركم بكرة الساعة 3 قدام دوران شبرا علشان نطلع كلنا بمسيرة لم ترها مصر من قبل هنطلع في مسيرة مصر ما شافتهاش قبل كده وهنختم مسيرتنا جوه ماسبيرو'. انتهت كلمات القس فيلوباتير لتنطلق الزغاريد تعبيرا عن الفرحة بما قاله.. ظهر اليوم التالي كما جاء في تقرير ال'بي بي سي' مسيرة حاشدة ويستوقف معد التقرير أحد القساوسة لعمل لقاء معه وهنا أيضا نص كلام أبونا دون تعليق: 'إحنا جايين علشان خاطر معترضين علي حرق الكنائس يعني أنا جاي علشان خاطر أموت علي إيد الجيش المصري اللي هو جيش بلدي اللي بيضرب ولادي وبيضرب إخواتي'. لقاء آخر يظهر فيه أحد القساوسة يقول: 'المحافظ يقدم استقالته ويتقبض علي الجناة والكنيسة تتبني والمشير في إيده كده يعمل كده ولو ماعملش كده هو عارف إيه اللي ممكن يحصل والمحافظ لو ما قدمش استقالته مسافة 48 ساعة هيموت موته شنيعة'. عودة مرة أخري للاستديو.. القس فيلوباتير جميل علي الهاتف يسأله مقدم البرنامج عن كلماته: تصريحك واضح.. إنكم تريدون أن تنتهي المظاهرة داخل مبني التليفزيون أي اقتحام التليفزيون ألا يعد ذلك تحريضا؟!. علي الطرف الآخر أبونا فيلوباتير يؤكد أن كلماته لم تكن وراء الأحداث الأخيرة في ماسبيرو لأن المشكلة بدأت منذ عشرة أيام عندما هدمت كنيسة.. وصرح محافظ أسوان بتصريحات مستفزة فخرج المسيحيون غاضبين وحددوا مهلة 48 ساعة لاتخاذ إجراء ضد المحافظ والإعلان عن إعادة بناء الكنيسة. ثم أكد أن عبارة 'جوه ماسبيرو' تعني أمام ماسبيرو وقال: 'لا داعي لتأويل الكلام'. أبونا هنا يتهم مقدم البرنامج بتأويل الكلمات في حين أن كلماته في التقرير لا تحتمل اللبس ولا تحتاج لتأويل فقد كانت كلمات أبونا واضحة وصريحة. نأتي لنقطة أخري في الاتصال عندما سأل مقدم البرنامج عن تهديدات أحد القساوسة بموت المحافظ موتة شنيعة قال القس فيلوباتير: 'هذا كلام غير مسئول من شخص غير مسئول يرتدي الزي الكهنوتي بشكل غير شرعي لأنه راهب سابق.. مشلوح'. الغريب أن هذا الراهب المشلوح كان يمشي وسط القساوسة وكلهم متشابكو الأيدي في مشهد لا يعبر إطلاقا عن نبذ هذا الكاهن المشلوح. المثير أيضا آن القس فيلوباتير غير كلامه أثناء المكالمة أكثر من مرة الطرف الثاني: في المقابل تحولت جنازة الكموني إلي جنازة شعبية خرج فيها الآلاف يهتفون بالروح بالدم نفديك يا إسلام.. لا إله إلا الله الكموني شهيد الله ليتحول الكموني إلي مناضل وشهيد لا لشيء إلا لأنه قتل مجموعة من المسيحيين. و'الكموني' هو بطل واحدة من أشهر القضايا التي هزت مصر وشغلت الرأي العام، بعد أن قتل 6 مسيحيين وجنديا مسلما، وحاول قتل آخرين، عندما هاجم كنيسة 'مارجرجس' بنجع حمادي ليلة الاحتفال بعيد الميلاد في 6 يناير 2010، حيث أطلق الرصاص علي تجمع للمسيحيين أمام الكنيسة. هنا يتحول القاتل إلي بطل.. بل رمز إسلامي، يهتف الآلاف باسمه ويعدونه من الشهداء.. ويبدو أن السياسات التي انتهجتها الدولة علي مدي الأربعين عاما الماضية علي مستوي الثقافة والتعليم والإعلام خلقت ما يمكن أن نسميه هياكل مواطنين. أصبح كثيرون يهتمون بالشكل دون المضمون وانعكس الأمر علي الاهتمام بشكل الدين دون الاهتمام بالمضمون.. الموظف يحصل علي رشوة ثم يقوم لأداء الصلاة!!. حالة القمع التي كنا نعيشها وعجز الكثيرين عن تحقيق ذاتهم هو ما دفعهم للتحدث باسم الدين، هؤلاء يزعجهم بناء كنيسة ولا يهتمون بقتل الآلاف بل الملايين من المسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان وفق خطط محكمة ومعلنة. لا يهتمون باغتصاب المسلمات في العراق ولا يتحركون لمقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية في أبسط رد فعل لمواجهة العدوان الأمريكي لكنهم يتحركون لحرق كنيسة لأنها مخالفة. الطرف الثالث: وهو حجر الزاوية في ملف الفتنة الطائفية والمسئول الأول عن تفاقمها.. وسياساته عبر 40 عاما مضت كانت السبب في إشعالها ووصول الاحتقان إلي درجة تنذر بحرب أهلية. ساهم هذا النظام بسياسات الإفقار والتجويع والقهر والقمع، في خلق مواطنين أشبه بالقنابل الموقوتة.. تحول الوطن إلي وطن محتقن.. تنظر إلي وجوه الناس تجدها متجهمة.. شباب يمشون مشي الكهول.. الرجال منكسو الرءوس.. تكسرهم الحاجة وضيق ذات اليد. دوامة لا تنتهي، حتي أصبح مصدر التحقق الوحيد وإثبات الذات، مباراة كرة قدم أو هدم أو بناء كنيسة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل راح النظام يستغل هذه الحالة التي خلقها بسياساته، كلما احتاج لذلك.. فالنظام الحاكم عبر أربعة عقود كان يستخدم ملف الفتنة الطائفية وغيرها من الملفات لتحقيق غرض أو التغطية علي شيء ما.. كان يلعب عندما يريد دور طوق النجاة للمسيحيين ومصدر الأمان من المتطرفين أو العكس. لم يتعامل النظام مع الفتنة الطائفية باعتبارها قضية أمن قومي.. فكل ما كان يشغله هو بقاؤه وبقاؤه فقط.. واكتفي في ذلك بالجلسات العرفية وتطييب الخواطر، والانحياز لصاحب الصوت العالي.. ما هي إلا مسكنات.. وسرعان ما تعود الأمور للانفجار من جديد بعد زوال أثر المسكن. نظام حاكم، كل قضيته وجوده واستمراره وتوريث الابن بعد ذلك. وعلي ذكر الابن.. فقد كان توريثه مبررًا لمغازلة الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وفي هذا الإطار كان النظام يتعامل مع ملف الفتنة، وعينه علي البيت الأبيض ليخلق احتقانا علي الجانب الآخر وتزداد العملية تعقيدًا. مشاكل الأخوة المسيحيين معروفة وحلولها ممكنة.. لكن للأسف لم تكن لدي النظام السابق نية لحلها بل كان دائما ما يستغلها لمصلحته أو لخدمة استمراره. المشكلة الحقيقية الآن، أن المجلس العسكري يتعامل مع الفتنة الطائفية بهدوء شديد في حين أن الأمر يحتاج تدخلا جراحيا. ويبدو أن هتاف 'الجيش والشعب إيد واحدة' دفع المجلس العسكري نحو محاولة إرضاء جميع الأطراف، في قضية لن يجدي معها ذلك. لقد كنت أتصور أن يمنع المجلس العسكري المتظاهرين من الوصول لمبني ماسبيرو كما منع من قبل وصول المتظاهرين لوزارة الدفاع خاصة أن أجواء المسيرة والهتافات التي صاحبتها وما سبقها من شحن للنفوس كان مؤشرا واضحا علي ذلك. لقد كنت أتصور أن يتم القبض علي المحرضين من الطرفين قبل تصاعد الأحداث حتي ولو كانوا 'رجال دين'.. لأن مصر فوق الجميع. ملف الفتنة الطائفية مختلف، بل إن خطورته لا تقل عن وجود الكيان الصهيوني علي الجبهة الشرقية.. وقابل للاشتعال في دقائق.. فاحتقان عنصري الأمة يختلف عن احتقان المدرسين أو السائقين ولا يجب التعامل معه بنفس المنطق ونفس الآليات والأدوات.. لقد تدخلت العناية الإلهية ومرت الأزمة الأخيرة بأقل الخسائر رغم فداحتها.. فلا ينبغي أن نترك ملفًا كهذا للصدفة. لقد كان وقوف فئة من الشعب المصري في مواجهة جنود القوات المسلحة أمرا محزنا ومخزيا للغاية، حتي ولو كانت ذخيرة الجنود 'فشنك'.. فإصابة مواطن بسيط أو جندي من الجيش علي يد الآخر في مواجهة ولو بالأيدي، كارثة حقيقية.. وانتصار طرف علي آخر ليس في مصلحة أي من الطرفين. ملف الفتنة يحتاج إلي دراسة، وتحديد إجراءات قصيرة وطويلة المدي.. وقبل هذا وذاك إعمال القانون وبقسوة هو أول خطوة في طريق نزع فتيل الأزمة.. فلم يسعدنا علي الإطلاق أن يقول المجلس العسكري إن جنوده مسلحون بطلقات فشنك أو عصي مواجهة الشغب. يجب أن تتعامل الدولة بقسوة مع الخارجين علي القانون.. ولا تفرق بين مواطن وآخر فكلنا مصريون.. الكاهن الذي يحرِّض كالشيخ الذي يحرِّض.. والقانون فوق الجميع.