يترقب المجتمع الدولى بعد مبادرة الحزام والطريق، ولادة عالم اقتصادى موازِ لاقتصادات الغرب، يزحف من جهة الشرق الآوراسى، يحاول التخلص من هيمنة الدولار الأمريكى على النظام العالمى الجديد، وإعادة عملة الذهب كغطاء لسلة العملات. نظام يتضمن بنك التنمية، وصندوق احتياطى الطوارئ لمجموعة البريكس، وبنك الاستثمار الآسيوى، مع وكالات تصنيف ائتمانى، وأنظمة مدفوعات دولية تسير قدمًا نحو تحرر الدول من قيود مؤسسات بريتون وودز، وإملاءات الصندوق التابع لها، وخاصة برامج الإصلاح الاقتصادى القاسية التى تُفرض على شعوب الدول التى تدور سياساتها خارج الفلك الأمريكى، وهى السياسة التى أطلق عليها فلاديمير بوتين سياسة التحرش. ودفعت سيرجى جلازييف كبير المستشارين الاقتصاديين لفلاديمير بوتين، إلى نشر مقال خلال قمة البريكس عام 2016، يحدد الحاجة للتحالف الدولى لمكافحة الدولار. قاطرة الاقتصاد الآوراسى الموازٍ بمؤسساته، ووكالاته تحت مظلة شبكة الارتباطات الدولية للاعب الشرق الآوراسى، الذى توسع فى إنشاء مناطق للتجارة الحرة مع سنغافورة وباكستان وشيلى وبيرو وكوستاريكا وأيسلندا وسويسرا وهونغ كونغ وتايوان بالإضافة للشراكة الاقتصادية الشاملة مع دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) ومجلس التعاون الخليجى ومصر، ولا تزال المفاوضات جارية مع اليابان وكوريا وأستراليا، وسريلانكا، والنرويج. وقد تجاوز حجم التجارة فى الدول الواقعة على حدود مبادرة الحزام والطريق تريليون دولار أمريكى حتى اللحظة. قاطرة يقودها بحرفية شديدة وبخطوات محسوبة جيدًا لاعبا الشرق الآوراسى (الصين- روسيا) على مسارات حزام واحد - طريق واحد، للتخلص من تبعية مؤسسات بروتين وودز، والقضاء على هيمنة الدولار الأمريكى فى غضون سنوات قليلة مقبلة. ما يعنى أن العالم سيشهد إصلاحا فى النظام الدولى القائم على عدم التوازن بين الأمن السياسى والتنمية الاقتصادية الذى خلفه مشروع مارشال الأمريكى بعد الحرب العالمية الثانية، وفقًا لإعادة تشكيل موازين القوى العالمية والذى بدأ يدور فعلًا بموجب قوانين جديدة لعالم متعدد الأقطاب. هكذا سيُعلن نهاية القرن الأمريكى، وميلاد جديد للقرن الآوراسي. خاصة إن أبعاد الهيمنة الأمريكية العالمية كبيرة بالفعل، لكن عمقها قليل. فالهيمنة تضمن نفوذا سياسيا وعسكريا حاسما، لكن لا تضمن السيطرة المباشرة على غرار الإمبراطوريات السابقة، فالحجم الكبير والتنوع الثقافى فى الآوراسيا، مع وجود دول قوية ذات ثقل عسكرى وسياسى واقتصادى بجوار دول تظن انها كانت تحكم العالم يومًا مثل فرنسا وألمانيا، لا يمكن أن تقبل بمبدأ الهيمنة أو السيطرة، وكلها مضامين تحد من عمق النفوذ وحجم السيطرة الأمريكية، خاصًة مع استكمال شبكة العلاقات متعددة الأطراف لدول الشرق الآسيوى ونجاح مساعى التخلص من مؤسسات بوتين وودز، والتحرر من هيمنة الدولار الأمريكي. وتستطيع الصين أن تقنع العالم بعكس الرواية الأمريكية، وهى أن عوامل أخرى غير السيطرة العسكرية على الأرض والبحر تحدد هيبة الدولة العظمى، ودرجة نفوذها الدولي. وان المهارة الاقتصادية وترجمتها إلى ابتكارات تكنولوجية تساعد على الارتقاء بمستوى معيشة الشعوب ونموه الاقتصادى يمكن أن تصبح عاملًا رئيسيًا فى الحسم على رقعة الشطرنج ، ومن هنا جاءت مبادرة الحزام الاقتصادى وطريق الحرير. ومع تبنى خطاب تنصيب الرئيس الأمريكى الجديد سياسة - أمريكا أولا - فى ظل التدهور الاقتصادى وانخفاض مستويات الدخل، ومع إعلان ترامب الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن غير الواضح احتمالية تراجع الرئيس الأمريكى عن هذا القرار. إلا أن العقل المفكر بأروقة صناعة القرار الاستراتيجى داخل الولاياتالمتحدة، والذى عمد إلى تشييد قلاع التقوقع داخل الحدود لاستعادة أمريكا الصناعية، لن يتخلى عن الحد الأدنى للطموح الإمبريالى، وسيعمل جاهدًا بعد ضياع حلم السيطرة على رقعة الآوراسيا خلال السنوات المقبلة على ترسيخ النفوذ والهيمنة الأمريكية كحارس أوحد على النصف الغربى من الكرة الأرضية، وكأنما تستدعى العقلية الأمريكية من المكتبة التاريخية للقرن التاسع عشر، مبدأ مونرو، لضمان الحصول على الوضعية الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الأولى كأحد أقطاب مستقبلية لعالم متعدد الأقطاب ولكن هذه المرة ستتلاشى هيمنة الدولار الأمريكى على النظام السياسى والاقتصادى العالمى، ولن تبقى مؤسسات بريتون وودز بشكلها الحالي. أما الاتحاد الأوربى، المنزعج من التحرك الأمريكى منفردا داخل آسيا الباسيفيك، فبالتأكيد سيسعى إلى الخروج من عباءة الهيمنة الأمريكية، إلى فتح أسواق آسيوية جديدة مع الصين والهند وحتما روسيا، تمنح الاتحاد التنوع فى تدفقات الطاقة والتبادلات التجارية والتعاون الاقتصادى والآمنى على أساس الشمولية وتكافؤ الفرص، واحترام تنوع الثقافات والنظم السياسية. فأوربا المثقلة بالديون والتى تأثرت بشدة نتيجة الأزمة الأوكرانية عام 2014 يمكن أن ترى فى السوق الآور آسيوية بديلًا حقيقيًا عن فكرة شجرة السوق الأوربية المشتركة التى لم تسقط ثمارها على شعوبها حتى الآن. كما أن الوجود الروسى بين جنبات هذا السوق، باشتراكها فى التكتلات الاقتصادية والأمنية الآسيوية متعددة الأطراف، يمكن أن يحقق التوازن بين القضايا الأمنية والتنموية،عبرالتقارب السلمى بين أوربا وآسيا، خاصة أن الأزمة الأوكرانية لم تحقق الهدف الاستراتيجى لأوربا فى إبعاد روسيا، بل ساعدت على تمزيق أوربا اقتصاديًا، والآن يمكن لمبادرة الحزام والطريق تحقيق التقارب السلمى بين روسيا والاتحاد الأوربى، متجاوزًة العقدة التاريخية التى لا تزال عالقة بالأذهان. .. كاتب جيو سياسي