«الإنسان موقف».. هكذا قرأها جيلى فى الصغر.. وهو جيل ثورة يوليو 52.. والذى تفتح وعيه على بساتين من الأفكار والفنون والمعرفة.. كانت تشتاق لزرع «الأوبرا» على ضفاف الترع.. نعم كان جيلًا محظوظًا قياسًا بالأجيال الجديدة الشابة.. أجيال ثقافة «التيك آوى».. والتى سرعان ما غمرتها الرياح المسمومة بالتطرف الدينى.. وتيارات الإسلام السياسى التى حاولت طمس العقول قبل طمس المعرفة والفنون ومحاولة شيطنتها!! وقد كان الرئيس الراحل «السادات» هو أول من فتح باب السجون والمعتقلات لهذا التيار.. وخرج للحياة ليدهس الأخضر واليانع كالأفيال الضخمة العمياء حد أن أحد القيادات الأمنية اللواء «فؤاد علام» قال فى كتبه: إنه أخرج المارد أو العفريت من القمقم وفى النهاية قتله!! ثم جاء حكم المخلوع والذى استمر 30 عامًا.. ترك لهم المجال العام على الغارب.. كل ما كان يعنيه الحكم والثروة واستخدامهم كفزاعة للغرب كى يبقى ويؤبد فى الحكم!! وبالتالى غرق المجتمع فى طوفان من الجهل والفقر والمرض.. بدليل ما نحن فيه الآن.. نعم ميراثه مروع.. زرع عبر سنوات من الإهمال والتبعية.. وأنجب فى الأرض أجيالًا مغتربة! بأفكار سلفية، جامدة، متطرفة، وأخرى محافظة.. تنال من قيمة الإنسان بالأساس، ويتحول معها إلى كائن يفتقد الرشادة فى التفكير والإرادة الحرة المستقلة! لعل هذه المقدمة الطويلة تدفعنا دفعًا.. إلى أن نؤكد أن هناك من القوى المتحالفة التى تبغى أن يظل المجتمع المصرى فى معظمه ساكنًا راكدًا غير منتج وغير فاعل يفتقد البوصلة الصحيحة للوثوب إلى الأمام.. وتلك القوى ترسخ الثالوث الموروث: الجهل، الفقر، المرض.. ويشترك فى ذلك فلول الماضى وسلفيو الحاضر.. وهم ينظرون إلى الثقافة والفنون على أنها إما زينة أو «حلية» فى ثوب الوطن تتراوح وظيفتها ما بين الترفيه أو التهريج.. وإما أفعال شيطانية ينبغى التخلص منها والقضاء عليها! أما «الفنان» تحق عليه اللعنة خاصة إذا لعب سياسة.. أو إذا أبدى موقفًا انحيازيًا اجتماعيًا.. ولا أدل على ذلك من مجموعة من الفنانين انحازوا إلى ثورة يناير.. وكانوا فى طليعة يونيو.. وإذا بالتهم تنهال عليهم من كل حدب وصوب.. ولعل الفنان «أحمد عيد» من هؤلاء الفنانين الذين اشتركوا فى الثورة ونزلوا ميدان التحرير.. فنال جزاء سنمار!! وها هو يعود مؤخرًا بفيلم يعرض فى الأسواق «ياباني أصلى» بعد ابتعاد وصمت طال أربع سنوات! والفنان «أحمد عيد» يذكرنى بالفنان والكوميديان الرائع «عبد المنعم إبراهيم» رحمه الله.. وفى البعد الإنسانى الواضح فى معظم اختياراته الفنية أخص بالذكر فيلم «ثقافى» و«ليلة سقوط بغداد» وهذا الأخير «يابانى أصلى». و«عيد» يعتمد على أداء هادئ، متزن، قد يراه البعض يتسم ببعض من البرود.. وربما يرجع هذا إلى ازدحام الأسواق بأعمال «البلياتشو» ذات الصوت العالى واستكشات المهرجين الذين يعتقدون بأنهم يقدمون كوميديا راقية.. والحقيقة أن الكوميديا بريئة منهم قبل الرقىّ!! فى فيلم «يابانى أصلى» نتعرف على مخرج يقوم بالإخراج «محمود كريم» لأول مرة.. وهو مكسب للسينما.. لأنه يقدم فيلمًا ذا مدلول اجتماعى واضح وهو يقوم بتعرية ما يسبح فى الأحياء العشوائية من سلوكيات معينة ومن تعليم فاشل ومن أخلاق تخاصم التحضر والعصر.. ولهذا نرى نقدًا لاذعًا للعملية التعليمية وبخاصة مرحلة «الابتدائى» الأساسية.. وكيف أن يتحول فيها الطفل الذكى المتوقد التفكير.. إلى طفل بليد ومنحرف أيضًا، وقصة الفيلم بسيطة.. وهى تقوم على زواج شاب مصرى «أحمد عيد» من فتاة يابانية تعمل فى مصر.. وبعد زواج استمر عامًا.. وإنجاب توأم.. مصطفى وعبد الرحمن تضطر اليابانية إلى الهروب إلى اليابان حتى تربى أبناءها بطريقة متحضرة، وبالفعل تتمكن من ذلك طيلة 6 سنوات.. وهى المدة التى لم يكل ولا يمل الأب المصرى من المطالبة بأبنائه. وأخيرًا يتمكن من استرداد الأبناء عبر صفقة مع السفارة اليابانية فى القاهرة وشروطها أن يتوفر لهذا التوأم التعليم الجيد والصحة والعافية، والتربية المتحضرة.. وإذا لم يتوفر أى من هذه الشروط.. فإن التوأمين يعودان إلى الأم، وقد حددت فترة الاختبار ب 6 أشهر لا غير!! خلال هذه الفترة نرى مع التوأم العجيب العجاب.. من تصرفات معيبة من قبل أهل العشوائيات.. ومن خلال المدرسة الابتدائية التى يتحول فيها الأطفال الأذكياء إلى مقامرين ونشالين!! ويحاول «الأب» المتوسط الحال أن يوفر لأبنائه حياة معقولة وسط هذا الطوفان من العشوائيات فى السلوك والأخلاق والتعليم.. وفى النهاية يكون الفشل قرينه.. وهو يعترف.. ويسلم أمره إلى الله.. وتأتى الأم لكى تأخذ أطفالها.. بعد أن فشلت الصفقة.. لكن كالعادة فى خاتمة الفيلم المصرى.. لابد من النهاية السعيدة التى يعود فيها الأبناء لحضن المغلوب على أمره الأب المصرى الشاب البسيط الذى أضفته السبل فى توفير بيئة صحية وتعليمية جيدة للأبناء.. وهو يلخصها فى جملة قصيرة.. وموجزة.. الخلل فى المجتمع ككل وليس فى الأفراد كل على حدة! رغم النهاية المفتعلة.. لكن الفيلم يحتوى على لمسات إنسانية عالية.. نلمسها فى تحول أهل العشوائيات بعد أن أحبوا التوأم والأب البسيط.. وذاك البائع على «عربة» والذى يرفض أن يقايض الأب عندما عرض عليه ساعة يده مقابل أن يعطيه «ساندوتشات» لأطفاله الجائعين.. يرفض البائع هذه الصفقة ظنًا منه أن هذا الرجل نصاب.. ولكن عندما يتأكد من وضع الأطفال الجوعى يمنحهم «الساندوتشات» دون مقابل!! ما يميز الفيلم هو الحس الإنسانى العميق والنقدى الذى يحرك معظم الشخصيات وفى مقدمتها «أحمد عيد» الذى يعود به لاختياراته الصائبة فى الحياة والفن.. والذى معه تساءلت مثل آلاف المتفرجين الذين شاهدوا الفيلم.. ورأوا فيه بعض الهنات لكنهم قالوا.. متى نرفع شعار «مصرى أصلى» ليتكافأ مع «يابانى أصلى»؟ ألم نرفعه فى يناير 2011 وشهد بذلك العالم بأسره.. فلماذا تآكل وتراجع مع الإحباط الذى نشاهده ونلمسه؟. كيف نعيده إلى الصدارة من جديد.. لنؤكد لأنفسنا أولًا.. وللعالم من حولنا.. أن الإنسان موقف.. بل والفنان المصرى صاحب موقف.. ينبغى أن يحيا به وعليه.. حتى يصبح قدوة مجتمع!!