في مناسبة مرور 120 عاماً علي ميلاده و58 عاماً علي رحيله .. صدر العدد الجديد من مجلة ' الهلال ' سبتمبر 2011 يتصدره ملف خاص عن ' ذلك الصرح الضخم، والعلم المفرد، والشاعر الكبير، والعالم الفذ، والكاتب المبدع، والبحاثة المدقق، والدارس المحقق والأديب الذي كتب في فنون الأدب جميعاً، شعراً ونثراً، إبداعاً ونقداً، مقالاً وبحثاً، دراسة ووصفاً ...' إلي آخر ما وصفه به معاصروه، ودارسو الأدب والنقاد .. ومازالوا حتي اليوم .. ' الدكاترة زكي مبارك '.. وزكي مبارك نموذج لما كان عليه أساتذة الجيل الماضي .. جيل الرواد .. في النصف الأول من القرن العشرين : طه حسين - محمد حسين هيكل - العقاد - أحمد أمين - لطفي السيد - شوقي وحافظ - المازني - الرافعي - عبدالعزيز البشري - سلامة موسي - المراغي - الظواهري - مصطفي عبدالرازق - الزيات - منصور فهمي - أحمد ضيف - شكري وأبوشادي والهراوي - مشرفة وسميرة موسي وعلي إبراهيم - خليل مطران - توفيق الحكيم .. وغيرهم .. وذلك الجيل الذي تغلب علي جميع الظروف، وهزم كل العقبات .. وجاهد وكابد حتي جعل من نفسه صروحا عالية في الفكر والعلم والأدب والفن .. ومنارات مازالت تبث أضواءها الباهرة إلي كل عقل .. وزكي مبارك واحد من هؤلاء .. بل يكاد يكون نموذجاً يجمع ما بينهم من صفات، وما تعرضوا له من صعاب وعقبات .. وقد استطاع بجسارة الفلاح .. وصرامة المؤمن بقضيته .. المصمم علي الانتصار مهما كان الثمن .. أن يتخطي عقبات كالمقادير لا تغالب .. وأن يهزم كل أسباب الإحباط والنكوص والاستسلام .. وينتصر في معاركه إبان الدراسة في الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم .. ثم يلتحق بالجامعة المصرية سنة 1916 لتداهمه ثورة 1919، وتجرفه بكليته فيصبح أشهر خطبائها والداعية لها .. ويتعرض للاعتقال والسجن .. ويتعمد في أتون الثورة ليزداد صلابة فوق صلابته .. وقدرة فوق قدرته .. وعنادا فوق عناده .. ليحصل علي درجة الدكتوراه الأولي سنة 1924 في الأخلاق عند الغزالي .. ثم يدرس اللغة الفرنسية ويسافر إلي فرنسا معلنا للعالم أنه جاء ليصحح أخطاء المستشرقين ويزيل الغمة عن عيونهم وعقولهم، ويحصل علي درجة الدكتوراه الثانية من جامعة السربون عن ' النثر الفني في القرن الرابع الهجري ' ويعود إلي مصر ليحصل علي درجة الدكتوراه الثالثة سنة 1923 في ' التصوف الإسلامي '.. وبعدها درجة الدكتوراه الرابعة من جامعة فاروق الأول عن ' عبقرية الشريف الرضي '.. ليصبح ' الدكاترة زكي مبارك '.. وعلي الرغم مما يروي عن تاريخه الوظيفي، وعلاقاته بالسلطة التي حالت دون استقراره في عمل محدد سواء في الجامعة أو في التعليم أو في دار الكتب .. أو في غيرها .. ثم مشاركاته الثقافية ومعاركه الشهيرة مع طه حسين وأحمد أمين وأحمد زكي باشا وسلامة موسي وغيرهم .. وهي المعارك التي مازالت قيد البحث والدرس حتي اليوم .. ومقالاته وآراؤه التي ضجت بها صحف ومجلات تلك الأيام حتي أطلق عليه فارس الكلمة الثائرة .. وبيعت الصحف والمجلات باسمه .. علي الرغم من كل ما يروي عن ذلك وهو كثير وشائق .. فإن حياته العلمية، وكتبه التي زادت علي الثلاثين كتابا في الفكر والشعر والأدب والنقد والحياة فضلاً عما حققه من تراث الأولين .. تشي كلها بقدرة غير عادية، وإصرار علي السير في الطريق الوعر المضني حتي نهايته .. وبعد عن المناصب والدنايا والتزلف للمسئولين علي حساب ما يؤمن به .. ومن ثم امتازت كتاباته بالصدق الذي كان جارحا في أحيان كثيرة .. خاصة في دفاعه عن الإسلام واللغة العربية .. والوطن .. في مواجهة الضلالة والتغريب والعمالة .. وكل ما نعانيه حتي اليوم، ويدفع الوطن من دماء أبنائه ومن استقراره وثرواته .. وفكره حتي تستمر الحياة .. وتنجو الأمة من الخطر .. ومع إيمانه العميق بالدين الذي اكتسبه من روافد متعددة ابتداء من نشأته الريفية وحفظه القرآن في سن مبكرة ثم دراسته الأزهرية المتخصصة .. فقد أزعجت آراؤه العديد من المتشددين والأدعياء والمتاجرين بالدين الذين لا يخلو منهم عصر ولا زمن .. لأنه كان يميز دائما بين الدين الحقيقي الصحيح والدين المزيف ' الدين المزيف بلاء يصبه التأخر علي الأمم والشعوب لأنه يمنح الكسالي والعاطلين سلطانًا خطراً ليشل حركة التقدم والنهوض .. أما الدين الصحيح فهو ثروة قومية يجب أن يحرص علي تنميتها ساسة الشعوب .. وهو حين يقوي يصبح من أدق الموازين في ضمائر الأفراد، ويغني الدولة غني لا يعرف قيمته إلا من يعرف ما للخلق القويم من أثر حميد '.. ولا يمل زكي مبارك من الحديث عن علاقته بمكرم عبيد خلال ثورة 1919 ورسالة مكرم لرئيسه المستشار الإنجليزي الذي تعجب من اشتراكه - وهو القبطي - في الثورة .. وفيها ' إذا صح أن الأقلية القبطية ستكون عقبة في طريق الاستقلال فسوف ندعو الأقباط جميعا إلي الإسلام لتسقط حجة المحتلين ' وكيف قام زكي مبارك وزملاؤه بطبع آلاف النسخ من رسالة مكرم .. وتوزيعها في أنحاء مصر دعما لروح الوحدة الوطنية .. تلك الراية التي سارت تحتها الجموع تنادي بالحرية والاستقلال .. في ذلك الزمان الذي دوي فيه صوت مكرم عبيد قائلاً : إنه مسلم وطنا أزهري ثقافة .. حيث كان يري أن الإسلام والثقافة الأزهرية من عناصر الوطنية المصرية التي كانت الرابطة الأساسية لأبناء مصر علي اختلاف عقائدهم .. وقتها كتب زكي مبارك وكأنه يكتب اليوم وسط المزايدات، والادعاءات الزائفة، والثورية بالوكالة .. قال : ' كثر التواصي بالوطنية في هذه الأيام وأصبحت الجرائد والمجلات ميدانا لأقلام أهل الحمية من أبناء الوطن العزيز .. وهذه فرصة لامتحان النفوس والعزائم والقلوب فكل امرئ يعرف ما يملك من زاد الوطنية، وكل امرئ يعرف ما عنده من عناصر الأمانة والصدق والإخلاص .. ابدأ بنفسك فنزهها من مآثم الجشع والخيانة والبهتان ..'. ولعل الكثيرين لا يعرفون أنه من أوائل من دعوا إلي الوحدة العربية باعتبارها الأصل والأساس ووعد شعوب العرب قبل 74 عاماً ' باللقاء القريب يوم تصبح الأقطار العربية أمة واحدة متجانسة تجانساً تاماً في العواطف والمقاصد والأغراض .. يوم ترفع الحواجز التي خلقتها الأوضاع السياسية .. يوم تصبح الأخوة العربية أقوي وأمنع من أن تكدرها وشايات الواشين ونمائم النمامين .. يوم يصبح الوجود العربي جسما واحداً إذا تألم منه عضو توجع له سائر الأعضاء .. يوم تتوحد بيننا المذاهب التعليمية والاجتماعية والاقتصادية .. يوم لا تكون الفوارق الجغرافية إلا نعمة ندرك بها كيف شاء الله أن ينوع الخيرات والبركات '.. ولعلنا ندرك أن ما خلفه زكي مبارك من إنتاج غزير ومتنوع مازال حيا حتي اليوم، ومازلنا نحتاج إليه في هذه المرحلة من حياة الأمة العربية وتداعيات الأحداث المتلاحقة التي تضع الأمة العربية كلها علي المحك .. وتجعل منها نموذجاً للأمة عندما يداهمها الخطر .