أحمد الشرع يتحدث عن سيناريو تقسيم سوريا ويحذر الدروز من الاستقواء بإسرائيل    أبطال واقعة "الليلة بكام"، قرار جديد ضد المتهمين بمطاردة طبيبة وأسرتها بالشرقية    موعد ومكان تشييع جنازة مدير التصوير تيمور تيمور ويسرا تعتذر عن عدم الحضور    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    بعد قمة ألاسكا.. الاتحاد الأوروبي يطرح مبادرة لعقد لقاء ثلاثي    الزمالك يكشف تفاصيل إصابة دونجا... وفحوصات جديدة لتحديد موقفه من التدريبات    عمرو الحديدي: مكي قدم مباراة كبيرة أمام الزمالك وناصر ماهر لا يصلح لمركز الجناح    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 17 أغسطس 2025    9 إصابات ومصرع سيدة في محور المحمودية بالإسكندرية    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    منافسة بنكية ساخنة على رسوم تقسيط المشتريات تزامنًا مع فصل الصيف    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    خالد سليم يعانق وجدان الجمهور بصوته في الأمسية الثانية من فعاليات الدورة 33 لمهرجان القلعة (صور)    وكيل صحة سوهاج يحيل طبيبا وممرضا بمستشفى طما المركزى للتحقيق    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    إزالة تعديات على الشوارع بالخارجة.. والتنفيذ على نفقة المخالف| صور    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    «بأمان».. مبادرات وطنية لتوعية الأهالي بمخاطر استخدام الأطفال للإنترنت    "لسه بيتعرف".. أيمن يونس يعلق على أداء يانيك فيريرا في مباارة الزمالك والمقاولون    ملف يلا كورة.. تعثر الزمالك.. قرار فيفا ضد الأهلي.. وإصابة بن رمضان    سلة - باترك جاردنر – سعداء بما حققه منتخب مصر حتى الآن.. ويجب أن نركز في ربع النهائي    عمرو محمود ياسين يكشف تفاصيل رحيل تيمور تيمور: «الأب الذي ضحى بحياته من أجل ابنه»    أحمد موسى: قطيع الإخوان هربوا من أمام السفارة المصرية ب هولندا (فيديو)    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    انخفاض الكندوز 26 جنيهًا، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    أول تعليق من فيريرا بعد تعادل الزمالك والمقاولون العرب    نشرة التوك شو| لجان حصر وحدات الإيجار القديم تبدأ عملها.. واستراتيجية جديدة للحد من المخالفات المرورية    تعرف على مكان دفن مدير التصوير الراحل تيمور تيمور    يسرا تنعى تيمور تيمور بكلمات مؤثرة: "مش قادرة أوصف وجعي"    الآلاف يشيعون «تقادم النقشبندي» شيخ المصالحات في الصعيد    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الأحد 17 أغسطس 2025    أسباب وطرق علاج الصداع الناتج عن الفك    «صحة مطروح» مستشفيات المحافظة قدمت 43191 خدمة طبية وأجرت 199 عملية جراحية خلال أسبوع    أول يوم «ملاحق الثانوية»: تداول امتحانات «العربي» و«الدين» على «جروبات الغش الإلكتروني»    في أقل من شهر.. الداخلية تضبط قضايا غسل أموال ب385 مليون جنيه من المخدرات والسلاح والتيك توك    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 17 أغسطس 2025.. مفاجآت الحب والمال والعمل لكل برج    شهداء ومصابون في غارة للاحتلال وسط قطاع غزة    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    أبرز تصريحات الرئيس السيسي حول الأداء المالي والاقتصادي لعام 2024/2025    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    تصاعد الغضب في إسرائيل.. مظاهرات وإضراب عام للمطالبة بإنهاء الحرب    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    بريطانيا تحاكم عشرات الأشخاص لدعمهم حركة «فلسطين أكشن»    مسؤول مخابرات إسرائيلى: قتل 50 ألف فلسطينى كان ضروريًا لردع الأجيال القادمة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر فلكيًا للموظفين والبنوك (تفاصيل)    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الاحتلال يقيم خيام إيواء لسكان مدينة غزة لنقلهم للجنوب.. مظاهرات فى تل أبيب تطالب بإبرام صفقة تبادل مع حماس.. وميلانيا ترامب ترسل رسالة شخصية إلى بوتين    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسرائيل مقيّدةً .. من الصدمة إلي الفعل
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 08 - 09 - 2011

علي الحائط كتابة بالطباشير . إنهم يريدون الحرب . والذي كتبها قد سقط صريعا
تشكل السطور السابقة نص قصيدة كاملة للشاعر الألماني الكبير ' بريخت ' ، كتبها في أوج نمو النازية الألمانية، قبيل تقدمها لتحطيم أوربا، وإغراق ثلث الكرة الأرضية بالدم . كان الشاعر يريد أن يقول
إن الحرب ليست كالسلام، فالسلام كالحب، يتحقق بإرادة طرفين، أما الحرب فهي كالكراهية، لا تحتاج إلا إلي إرادة طرف واحد، وكان يريد أن يقول إن الحرب علي هذا النحو، حقيقة موضوعية، وهي ككل حقيقة لا بد أن تجد من يسجلها، ولو بالطباشير علي حائط مهدم، لكن معرفة الحقيقة، لا تمنع حدوثها، وموت من رآها جذوة متقدة تحت دخان الشكوك، لا يمنعها من أن تبقي حية، في إدراك الأحياء من بعده .
' 1 '
في هذا الوقت، وعندما بدأت النازية الألمانية، اندفاعتها لالتهام أوربا، كانت أمريكا لا تزال تعلن الحياد، حتي بعد أن ضم هتلر النمسا وأخرج فرنسا من منطقة الرورو، بينما كانت إجراءات بريطانيا وفرنسا لإعلان الحرب، لا تخرج عن سياق خطاب لغوي خالص، وعندما اضطرت طائرة عسكرية ألمانية للهبوط في بلجيكا، واعتقل من بين ركابها، ضابط ألماني من هيئة أركان الحرب، وبحوزته خطة ألمانية كاملة، لغزو بلجيكا وهولندا وفرنسا ' وهو ما سمي باسم أولاف فيسر ' ، لم يكن أحد في أوربا أو أمريكا، كما يروي تشرشل نفسه في مذكراته، يمتلك قناعة بأن المانيا عازمة فعلا علي أن تمزق ما تبقي من معاهدة فرساي، وأن تتقدم لالتهام أوربا .
كان الهاجس الذي يحكم العقل الاستراتيجي في أوربا والولايات المتحدة معها، أنه يمكن العمل بهدوء، لاحتواء هتلر، وتقييد نزعته التوسعية، وذلك بعدم إثارته علي جانب، وتركه يضم بعض الأرصفة الأوربية من حوله، علي جانب آخر، ثم دفعه إلي مائدة المفاوضات، وإغرائه بتوقيع معاهدات عدم اعتداء مع بقية جيرانه مساومة علي ما ابتلعه بالفعل . وعندما جلس هتلر ليوقع هذه المعاهدات، كانت أوربا تتصور أنها نجحت في تقييده، بينما كانت يده اليسري توقع علي اتفاقيات، تعرف يده اليمني أنها ستقوم بتمزيقها بعد أسابيع قليلة .
هكذا بدأ بغزو الدانمارك، ثم بلجيكا وهولندا، ولكسمبورج بعد أربعة أسابيع، ولم يمر غير أسبوع آخر، حتي كان الجيش الهولندي يستسلم، والفرنسي ينسحق، والقوة النازية، تتقدم علي طول تسعين كيلو مترا بين ' سيدان ' و'تامور ' علي محور الجنوب الغربي، لتصب حممها نارا في قلب باريس، بينما العالم كله يقف علي أطراف أصابعه، يتأمل جاحظ العينين، مشهداً بدا له ضربا من الجنون .
المدهش أن الأمر تكرر بعد ذلك، علي الجبهة السوفيتية، فأمريكا التي استوعبت الدرس السابق أرسلت قبل الغزو بشهور، تحذيرا لموسكو، ثم أرسلت بريطانيا التي استوعبت الدرس بدورها تحذيرا آخر، لكن ' ستالين ' ، لم ير في التحذيرين، إلا محاذير ذاتية، وأنها سلوك استفزازي إمبريالي، ولذلك لم يكلف نفسه عناء أن يأمر بتعبئة القوات السوفيتية، ليفاجأ بعد أسابيع أخري، ودون مقدمات أو بيانات، باقتحام القوات الألمانية للأراضي السوفيتية، علي طول الحدود الممتدة من البحر الأسود حتي بحر البلطيق، ولذلك كان طبيعياً، أن تتمكن القوات الألمانية، بعد ثلاثة أسابيع فقط، من بدء أعمال القتال علي الجبهة الروسية، من التوغل بعمق يتراوح بين 400 إلي 600 كم، علي جميع محاور الهجوم الرئيسية في الأراضي السوفيتية، بعد أن ذبحت أكثر من ثلاثة أرباع الطائرات الروسية، وهي نائمة في مخادعها .
' 2 '
والحقيقة أن العقول الاستراتيجية في الولايات المتحدة وأوربا والاتحاد السوفيتي لم تترك أسباب ما حدث، ونتائجه، دون أن تخضعها لمراجعة متأنية وعميقة، وأمام لوحة كبيرة من الأسئلة عن ذلك الشك الذي جعل الإرادة الغربية كلها، ومن بعدها السوفيتية معلقة بحسابات احتمالات، برهنت النتائج العملية علي أنها كانت مغرقة في سوء التقدير، ابتنت عليه سوء تخطيط، ترتب عليه سوء تصرف، وانتهي إلي مسلسل من الكوارث المفزعة، ثم جاءت نتائج هذه المراجعة العميقة، التي توزعت علي عدة دراسات مستفيضة، لتثبّت مجموعة مبادئ، كان في مقدمتها :
أولا - أن الأخطاء التي قد تبدو صغيرة أو تكتيكية في تقدير حسابات احتمالات لجوء طرف إلي الحرب، تترتب عليها أخطاء جسيمة في مجري المواجهة العسكرية .
ثانيا - أن التراكم الكبير في القوة العسكرية علي جانب، يخلق لنفسه قانونا خاصا، ويمثل حافزاً نشطاً للحرب والعدوان، وهو لا يغري فقط باستخدام القوة للحصول علي مكاسب سياسية، ولكنه يعتبرها الأداة الأسرع والأسهل، وهو لا يعلي فقط من مفهوم الأمن الذاتي، ولكنه يحوله إلي أمن مطلق، ولذلك فإن تراكم القوة يمثل تهديدا مباشرا بغض النظر عن ارتباطه بأطماع توسعية، لأنه يتحول بذاته إلي حقل خصب لنمو هذه الأطماع .
ثالثا - أنه لا ينبغي اعتماد موازين القوي الإقليمية في حساباتها العامة، عند وجود خصم لعدد من الدول علي مستوي الإقليم، وإنما ينبغي أن توضع موازين القوي الوطنية، بشكل منفصل لكل دولة في مواجهة هذا الخصم، كما أن حسابات الردع ينبغي ان تتسم بالمنهج ذاته، لأن حساب موازين القوي إقليميا هو حساب مخادع، طالما أن هذه الدول ليست منخرطة، في نظم من التوحد العسكري الميداني أو الدفاعي .
رابعا - عند حسابات موازين القوي في صيغها المباشرة، ينبغي أن يكون التركيز واضحا علي طبيعة التوجه التسليحي، فلا يتم الخلط بين التوجهات الدفاعية المحضة، وتوجهات التسليح وفقا لمبادئ هجومية واضحة .
خامساً - إن نظرية الردع لا تنجح، دون أن تتوافر لها ثلاثة شروط أساسية :
1 - وجود قوة قادرة علي الردع .
2 - اقتناع الخصم بوجود هذه القوة وبفاعليتها .
3 - وجود الاستعداد التام لاستخدام هذه القوة واقتناع الخصم بوجود هذا الاستعداد، فإذا توفرت القوة الرادعة، وتوفرت قناعة وجودها عند الخصم، وتوافرت النية لاستخدامها عند أصحابها، ولم تتوافر لدي الخصم قناعة بتوافر النية لاستخدامها، تصبح نظرية الردع بغير فاعلية .
سادسا - الربط بين العقيدة السياسية للخصم، وبين عقيدته القتالية، أمر بالغ الأهمية، لأن العقيدة السياسية ذات التوجهات التوسعية، لا يمكن إلا أن تقود عقيدة قتالية، مبنية علي التوجهات ذاتها .
سابعا - ' السيناريو الأسوأ ' قد يكون السيناريو الأضعف، ولكنه ينبغي أن يوضع في المرتبة الأولي، عند ترتيب الاحتمالات المضادة .
' 3 '
لقد كتبت السطور السابقة قبل سنوات، في إطار نقدي ل'تقدير موقف ' تجاه الحالة الإسرائيلية، كنت أري أن حساباته، لا تتسم بالصحة والرشاد، لكنني أكتبها هذه المرة، في إطار تحية واجبة ل'تقدير موقف ' يعكس حسابات بالغة الدقة والصحة والسلامة، وهو تقدير ترجم نفسه عمليا، مع أول ضوء يوم 28 يناير 2011، إلي دفع القوات المسلحة المصرية عناصر من الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة، مدعومة بالمدرعات وطائرات الهليكوبتر، إلي المنطقتين ' ب ' و'ج ' في شبه جزيرة سيناء، وهما منطقتان لا يسمح فيهما بتواجد وحدات عسكرية مصرية مقاتلة، وفقا للاتفاقية الأمنية، الملحقة باتفاقية ' كامب ديفيد '. وقد كان دفع هذه العناصر من القوات حتي الحدود الدولية، سابقا علي إخطار الواقفين علي الجانب الآخر من التل به، ولذلك فقد شكل بذاته مفاجأة أخري، أضافت مزيدا من الوقود إلي المفاجأة الاستراتيجية الكبري، التي شكلها بزوغ فجر الثورة المصرية، خاصة بعد أن أصبح الحضور العسكري المصري في المنطقتين، أمرا واقعا، ووضعا قائما، لا يقبل الجحد ولا الإنكار.في صبيحة يوم 25 يناير نفسه، وعندما بدأت مقدمات الصدام الدامي قرب ميدان التحرير في القاهرة، كان ' أفيف كوخافي ' رئيس شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية ' أمان ' يقف أمام لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، مؤكدا بصوت قوي، وبحروف واضحة ' إن النظام في مصر مستقر ولا خطر عليه مطلقا ' ، وهو ما أدي بعد ذلك إلي تصاعد المطالبات في الكنيست، بالتحقيق فيما أكده، والذي عكس فشلا ذريعا في الرصد والتنبؤ، حد تأكيد صحيفة ' يديعوت أحرونوت ' أن الثورة المصرية أطاحت بحسابات المخابرات الإسرائيلية، كما حدث في حرب أكتوبر .
قبل ذلك بأيام قليلة، كانت مدينة ' هرتزليا ' تشهد وقائع المؤتمر السنوي للأمن القومي الإسرائيلي، والذي يشارك في صياغة رؤيته، كافة قيادات الجيش والأمن والإدارة والأحزاب في إسرائيل، إضافة إلي خبرات استراتيجية وأمنية خاصة، من داخل إسرائيل ومن خارجها، وهو مؤتمر يكاد مستخلص أعماله، أن يمثل التوجه الاستراتيجي العام، الذي تنتظم فيه كافة مفردات العمل العسكري والأمني، فضلا عن السياسي والاقتصادي.كان التصور الذي قدمه الجنرال ' داني روتشيلد ' رئيس المؤتمر ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية، شأنه شأن بقية التصورات التي قدمها أهم خبراء الاستراتيجية والأمن في إسرائيل، من ' عوديد عيران ' إلي ' شلومو أفنيري ' فقد خلت جميعها من أية إشارة إلي تغيير محتمل، أو مقدمات تغيير متوقع، في البيئة الاستراتيجية للإقليم، بل إن بعض الأصوات الأكاديمية، التي تحدثت في المؤتمر، كررت علي نحو ببغاوي رتيب، ما كانت تؤكد عليه بعض وسائل الإعلام في مصر، والذي أخذ شكل مقولة ثابتة هي : ' مصر ليست تونس ' ، وهي مقولة اعتمدها كل نظام عربي بعد ذلك، عندما بدأت النار تمسك بثيابه.هكذا كان واضحا، أن الرؤية الاستراتيجية العامة في إسرائيل، مستقرة علي أن أوضاع الإقليم، أنظمة وجماهير وموازين قوي، ستظل ثابتة علي حالها، وكأنها جزء من قوانين الليل والنهار، ولهذا فإن أغلب الأهداف الاستراتيجية التي تمت الإشارة إليها، توقفت عند حيز تعميق الحضور الإسرائيلي في الإقليم، اعتمادا علي أنظمة أكثر انصياعا، وأكثر قدرة علي البقاء في الوقت ذاته، مع إشارات مبهمة إلي مخاطر محتملة، لصعود قوي إسلامية إلي سدة الحكم، ولكن بوسائل ديمقراطية خالصة، وهذه الرؤية الاستراتيجية الواثقة المطمئنة ذاتها، هي التي اصطبغت كافة إصدارات مركز أبحاث الأمن القومي في إسرائيل، علي امتداد العام السابق ' 2010 ' حيث تنتهي مراجعتها جميعها، إلي خلوها من أي رصد أو تنبؤ، باحتمال حدوث تغيير ذي طبيعة جوهرية، في دائرة هذه البيئة الإقليمية، سواء في إطارها المحيط المباشر، أو تخومها الواسعة . ولم يكن الأمر مختلفا عن ذلك، من قريب أو بعيد - ودون دخول في التفاصيل - في عمق أجهزة المخابرات الأمريكية، البالغة التعدد والتشعب، فقد جاءت الثورة المصرية، توقيتا، وحجما، وطاقة، ونتائج، خارج كافة الحسابات والتوقعات، ولهذا مثّلت بذاتها مفاجأة استراتيجية كاملة .
' 4 '
ينبغي أن يكون واضحا - أولا - أننا حين نتحدث عن السياسة الخارجية الإسرائيلية، فإننا نتحدث بتحديد قاطع، عن أحد فروع التخطيط العسكري الاستراتيجي .
وينبغي أن يكون واضحا - ثانيا - أننا حين نتحدث عن صياغة الرؤية الاستراتيجية في إسرائيل، فإننا لا نتحدث عن أفراد، وإنما عن مؤسسات، ولهذا فإن محاولة تبرير المفاجأة الاستراتيجية، التي مثلتها الثورة المصرية، والارتباك الكبير، الذي ترتب عليها، بأن إسرائيل عاشت خلال الأسابيع السابقة علي الثورة، تغييرا في جميع رؤساء أجهزة الاستخبارات والأمن والجيش، من قيادة الموساد، إلي قيادة المخابرات العسكرية، إلي موقع رئيس أركان الجيش، بوضع ذلك كغطاء لغياب هذه المفاجأة الاستراتيجية، عن كافة التوقعات والتقديرات الإسرائيلية، هو من قبيل تبرئة هذه الأجهزة الإسرائيلية لنفسها، من اتهام استخدمت معه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية نفس التعبير، الذي استخدمته مع المفاجأة الاستراتيجية للعبور العظيم في حرب أكتوبر، وهو تعبير ' التقصير '.
وينبغي أن يكون واضحا - ثالثا - أن هول المفاجأة لم يقتصر علي منظومة القوة في إسرائيل، فلم تكن الصدمة أقل عنفا في أوساط الرأي العام الإسرائيلي نفسه، بحكم عاملين :
الأول - أن الأزمة الاجتماعية، الاقتصادية، تمكنت في الفترة الماضية من اختراق سقف الأيديولوجية ذاتها، وقد شكلت ضغوطا شديدة علي الحكومة الإسرائيلية، حد إعلانها عن التوجه إلي تقليص جانب من موازنة الأمن، التي بلغت 15 مليار دولار ' 18٪ من الموازنة الإسرائيلية العامة ' وذلك في العام القادم، لتوجيهه نحو إطفاء بعض نار الانتفاضة الاجتماعية، ولكن الأمر غدا معكوسا، بعد الثورة المصرية، فمطالب الأمن المستجدة تضغط بشدّة، لضخ أموال إضافية في موازنته، بدلا من تقليصها، وهو أمر لن يخلو من إنتاج تفاعلات جديدة داخل إسرائيل .
الثاني - أن هناك استقطابا شعبيا حادا في إسرائيل تجاه اليمين، لا تؤكده استطلاعات الرأي، التي أجريت مؤخرا فحسب، والتي قالت إن 70٪ من الإسرائيليين يرون أن احتمالات السلام تتراوح بين مستحيل وضعيف جدا، وأن 69٪ منهم يرون أن هدف العرب يتراوح بين احتلال إسرائيل، واحتلالها مع القضاء علي جانب كبير من السكان اليهود، بل إن هذا الأمر يبدو واضحا، في قيام ' باراك ' بالانشقاق علي حزب العمل، بعد أن وصفه بأنه يمثل آراء يسارية متطرفة، وقد كان ذلك بمثابة نشر نعي في صفحة الوفيات لحزب العمل، وباقي قوي اليسار، بعد المعاناة من عجز مزمن، كما كان استقراء صحيحا من جانب ' باراك ' لعوامل بقائه الذاتي علي سطح الحياة السياسية .
وينبغي أن يكون واضحا - رابعا - أن الأوضاع المستقبلية، التي تدخل حيز الاحتمال لا اليقين، تحظي في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي بأولوية كبيرة، لقد وضع الإسرائيليون - علي سبيل المثال - بشكل مبكر جدا، احتمال الانسحاب الأمريكي من العراق، علي مائدة بحث شاركت فيه كل الأجهزة المسئولة، من الموساد إلي الجيش مرورا بمجلس الأمن القومي والخارجية، وقسم التخطيط العسكري، للإجابة عن سؤال محدد : ' كيف سيؤثر الانسحاب الأمريكي علي المصالح الاستراتيجية لإسرائيل ؟ ' وكانت الإجابة : أنه سيترتب عليه، إعادة تشكّل شرق أوسط جديد، وبعد جولات من المباحثات الأمريكية - الإسرائيلية، لم تجد الولايات المتحدة بديلا عن تهدئة القلق الإسرائيلي البالغ المترتب علي ذلك، سوي رفع المساعدات الأمريكية لإسرائيل بمعدل 3 مليارات دولار كل عام .
وينبغي أن يكون واضحا - خامسا - أن المفاجأة الاستراتيجية المصرية، وما تلاها من تحرك عملي علي الأرض، ساهمت في اهتزاز جانب من المعتقدات الإسرائيلية، الحاكمة في صياغة المواقف واتخاذ القرارات، في الحقلين العسكري والسياسي ' الردع فوق الحوار - القوة قبل الإقناع - التشدد أكثر فاعلية من التوفيق - الفعل فوق الأرض أهم من السياسة ' وربما هذا ما دعا قبل أسبوعين، كاتبا إسرائيليا ' عوفر شيلح ' إلي إطلاق إعلان مدوٍ، بأن : ' عنصر الردع لم يعد ذا جدوي، في الصراع العربي الإسرائيلي ' ، لكن الأهم من ذلك هو تأثير هذه المفاجأة الكبير، علي المفاهيم الاستراتيجية الإسرائيلية، وعلي الاستراتيجية العسكرية، في طابعها العملي، التي تنتظم مفردات التسليح، والتدريب، وتوزيع القوات، وخطط العمليات في إطارها .
ولهذا كانت ردود فعل بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين، علي المتغيرات في مصر، تعبّر عن أعصاب محترقة أحيانا، وعن ارتجاج عقلي في أحيان أخري، فعندما يقترح خبير استراتيجي إسرائيلي بارز هو ' رون بن يشاي ' - صاحب نظرية الردع الجارف في مواجهة الفلسطينيين - أن تدرس الحكومة الإسرائيلية علي نحو جاد، مطالبة الحكومة المصرية بأن تسمح للجيش الإسرائيلي، بإدخال عدد من قواته إلي سيناء، ريثما ينتهي بناء الجدار العازل، فهو يتحدث من مساحة خارج العقل، وعندما يقترح ' إيفي ديختر ' وزير الأمن الإسرائيلي السابق، - والذي أشاع في محاضرة شهيرة له، تحولت إلي رادع معنوي للعرب جميعا، أن الأجهزة الإسرائيلية نجحت في الإمساك بقلب مصر بين أصابعها - قيام الجيش الإسرائيلي باحتلال سيناء من جديد، فإنه يتحدث من خارج الزمن والعقل علي السواء، ومن جهاز عصبي حولته نار الثورة المصرية إلي رماد .
وينبغي أن يكون واضحا - سادسا - أن جانبا من الإحساس العميق بالإحباط، إنما يرجع إلي أن لغز ' أبو الهول ' الذي انتفض في مصر، لم تستطع كل أدوات الاختراق في الداخل، وهي عميقة ومتعددة، ولا كل وسائل الاستشعار عن بعد، وهي قوية ومؤثرة، أن تكشفه وأن تحل شفرته .
إن العدد الأكبر من قضايا التجسس الإسرائيلي، التي تم الكشف عنها مؤخرا في مصر، ترتبط بتكنولوجيا التجسس الإلكتروني، ويثير الانتباه هذا الإلحاح الإسرائيلي، علي هذا النمط من التجسس تحديدا، حيث يعكس توسعا منهجيا، وهو ما تجسّد عمليا في قاعدة ' أوريم ' والتي تمثل أهم محطة للتجسس الإلكتروني في إسرائيل، كمحطة أرضية لاعتراض الإشارات الفضائية، تقوم بنقل الرسائل مباشرة إلي مقر الوحدة 8200، التي تتبع رسميا الجيش الإسرائيلي في مدينة هرتزليا، رغم أنها تشكل مركز الجهاز العصبي، لمعلومات المخابرات الإسرائيلية، ومنها يتم نقل الرسائل، إلي مراكز القيادة والسيطرة، في الجيش والمخابرات، وقد توسع عمل قاعدة ' أوريم ' ليضيف إلي مراقبة الاتصالات الدولية الفضائية، في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، التنصت علي الكابلات البحرية في البحر المتوسط، إضافة إلي الأقمار الصناعية المحلية .
والحقيقة أن درس المفاجأة الاستراتيجية المصرية، الذي تلقته إسرائيل، رغم هذا التوسع الهائل في التجسس الإلكتروني، ليس بعيدا عن عدد من الدروس المشابهة، التي تلقتها أجهزة المخابرات الأمريكية، من بينها تفجيرات الهند النووية، التي تم تضليل الأقمار الصناعية الأمريكية، عن رصدها، بوسائل تمويه بدائية، وتفجيرات السفارتين الأمريكيتين، في نيروبي ودار السلام، وقد لخص الاستراتيجيون الفرنسيون هذا الدرس، في أن التوسع في التجسس الإلكتروني، قد أعطب أدوات التجسس المباشرة، اي العناصر البشرية التي لا تزال تمثل الأدوات الأكثر فاعلية ودقة، في أعمال المخابرات، إذ أنه كلما تطورت وتعقدت التكنولوجيا الحديثة، كان تضليلها أكثر سهولة ويسرا .
' 5 '
لقد نشر الجيش الإسرائيلي أعدادا كبيرة من جنود المشاة، علي طول الحدود مع مصر، وحشد في ميناء إيلات عددا من زوارق الصواريخ الأكثر تطورا، ودفع بسفينتين حربيتين إلي عمق البحر الأحمر، كما عززت أمريكا دفاعاته ضد الصواريخ بأربع بطاريات لنظام القبة الحديدية، وقد يكون بعض أسباب هذه التحركات الإسرائيلية - كما قال خبراء عسكريون مصريون - هو إظهار القوة، واستفزاز مصر، وقد تكون هذه التحركات مقدمة لتحركات أكثر استفزازا وإظهارا للقوة .
ورغم أهمية رصد ذلك ومتابعته، واستخلاص أهدافه، لكنه ليس بديلا، عن دراسة محددات السلوك الإسرائيلي في الفترة القادمة، وحسابات الاحتمالات، في ضوء ما استخلصه العقل الإسرائيلي، من بروز أوضاع جديدة، وتهديدات مستجدة، تتعلق بموازين القوي، واتجاهات المجهود الرئيسي .
إن كافة التحركات الإسرائيلية السابقة، لا تعدو في تقديري، أن تكون غير تعبير عن نفي شكلي، لإحساس إسرائيلي عميق، بأن إسرائيل ذاتها، مع غموض في الأوضاع والنوايا والمستجدات من حولها، قد أصبحت مقيدة، لكن السؤال الجوهري الآن هو : ' كيف يفكر العقل الإسرائيلي، في فكّ هذه القيود'؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.