«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ساراماجو في رام الله:
يرسم فلسطين وردةً ويطالب لها بقطرة ماء ويوقّع تحت الرسم
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 06 - 2010

ساراماجو يدافع عن القضية كلما سمعت كلمة "الضفة الغربية" أفكر بخطورة التلوث اللغوي المقصود الذي أدي بالفعل إلي اغتيال اسم "فلسطين".
هذا ما لم يدر بخاطر الشاعر الصيني "بي داو"
(...) تحدثت مع محمود درويش في برنامج زيارة وفد برلمان الكتاب العالمي، وإعداد قاعة المبني للمؤتمر الصحفي المنتظر. جاء الكتّاب وتحدثوا وسمعوا من الكتّاب الفلسطينيين وعبروا عن تضامنهم ورغبتهم في رؤية الوضع مباشرة علي الأرض. تجولنا معهم في مخيم الأمعري للاجئين، الواقع في قلب رام الله.
كان ضرورياً أن يشرح لهم أحدنا مَن لاجئ عند مَن. وكيف أصبح في رام الله الفلسطينية مخيمات للاجئين الفلسطينيين، فبعضهم لا يعرف أن هؤلاء اللاجئين من مدن وقري الساحل الفلسطيني جاءوا إلي هنا بعد أن دمرت بيوتهم وممتلكاتهم إثر نكبة 1948، أي أنهم اتخذوا لأنفسهم ملاذاً في مدن داخل وطنهم لم يتم احتلالها في النكبة، فلجأوا إلي الضفة وإلي غزة. وأقاموا في تسعة عشر مخيماً في الضفة الغربية، (وبعد قليل سأشرح مشكلتي مع هذه التسمية الخاطئة عن قصد، والخطيرة دون أن ندري: "الضفة الغربية") هي بلاطة، طولكرم، جنين، عسكر، الدهيشة، شعفاط، الجلزون، قلنديا، العرّوب، نور شمس، الفوّار، الفارعة، مخيم رقم1، عقبة جبر، عايدة، دير عمار، عين السلطان، بيت جبرين، ومخيم الأمعري. هذا بالطبع عدا مخيمات غزة التي ستحتل صدارة نشرات الأخبار في المستقبل لتكرر الهجمات الإسرائيلية ضد سكانها وهي جباليا، رفح، الشاطئ، النصيرات، خان يونس، البريج، المغازي و دير البلح. البعض الآخر لجأ إلي الأردن وسوريا ولبنان وغيرها. وكل قصف أو اجتياح لمخيم من هذه المخيمات هو بالنسبة لساكنيها نكبة ثانية وثالثة ورابعة. آلة الدمار الإسرائيلية طردتهم من غرب فلسطين فلجأوا إلي شرقها.
فأي تفكير جهنميّ أدي إلي أن يسمّي "شرق فلسطين" "الضفة الغربية"؟ تفتح خريطة فلسطين التاريخية فتجدها تقع بين البحر الأبيض المتوسط غرباً ونهر الأردن شرقاً. احتلت العصابات الصهيونية فلسطين الغربية الواقعة علي ساحل البحر المتوسط فلجأ بعض سكانه إلي فلسطين الشرقية الممتدة حتي نهر الأردن. ولأن المطلوب محو اسم "فلسطين" من الخريطة ومن التاريخ ومن الذاكرة، نسبت هذه المنطقة إلي نهر الأردن فسميت باللغة العربية وبكل لغات العالم "الضفة الغربية" وهكذا اختفي اسم "فلسطين" نهائياً من كل خرائط الدنيا.
فإذا كان غرب البلاد أصبح اسمه "إسرائيل" وشرقها أصبح اسمه "الضفة الغربية" فأين تقع فلسطين؟
هكذا، لكي تضيع فلسطين أرضاً كان يجب أن تضيع لغةً أيضاً.
وأنا كلما سمعت كلمة "الضفة الغربية" أفكر بخطورة التلوث اللغوي المقصود الذي أدي بالفعل إلي اغتيال اسم "فلسطين".
هذا ما لم يدر بخاطر الشاعر الصيني "بي داو" عندما صدم بحالة الإنكار التي صادفها أمام القنصلية الإسرائيلية في سان فرانسيسكو، عندما قال للشاب الواقف أمامها، إنه يريد السفر إلي فلسطين، فقال له ذاك الشاب:
- إن هذا البلد لا وجود له علي الخريطة يا سيدي!
في المستقبل سوف تنشر مجلة نادي القلم الدولي Pen International قصيدة كاملة لي علي غلافها الخارجي، وهذا تكريم منهم بلا شك(...).
لكن إدارة المجلة، بدلاً من أن تكتب في الفهرس: "مريد البرغوثي_ فلسطين" كتبت "مريد البرغوثي- السلطة الفلسطينية"!
عندما طالبتهم بتفسير الأمر قالوا إنه لا يوجد بلد في العالم اسمه فلسطين، وكان ردي: وهل "السلطة الفلسطينية بلد"؟
ليست إسرائيل وحدها المسؤولة عن طمس اسم فلسطين إذن، إنه العالم. الدكتاتوريات العربية أكثر من سواها وقبل أوروبا وقبل كل الدول الغربية المتحالفة مع إسرائيل ساهمت وما تزال تساهم في هذا الاغتيال اللغوي وهي لا تقل إجراماً عن إسرائيل في هذه الناحية علي الأقل.
لم أشرح هذا كله لمن معي في وفد الكتاب فالموقف لا يسمح بالإسهاب. كل ما أردت الإشارة إليه أن دولة إسرائيل لا تزال تلاحق اللاجئين في ملاذاتهم منذ ستين سنة، هكذا أصبحت مجازر مخيمات اللاجئين التي تحمل أسماء جنين وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وتل الزعتر وسواها جزءاً من سياق تشريد الضحية مرتين وقتلها مرتين. نعم مرتين، وربما أكثر، وإلا ما معني الاحتلال؟
هنا في مخيم الأمعري رأي الكتّاب الضيوف ورأينا تكتيكات الجيش الإسرائيلي المتبعة في اقتحامه:
يدخلون أحد البيوت، يعتقلون كل سكانه، يقيدونهم بسيور مطاطية، ثم، بأسلحة تفجير خاصة طورتها إسرائيل لمثل هذه الغارات، يحدثون فجوة ضخمة في الحائط المشترك مع البيت المجاور ويقتحمونه، وهكذا تفاجأ الأسر الفلسطينية، بجنود ينبثقون من الحائط كما في الكوابيس. بعد ذلك يهدمون جداراً آخر لاقتحام البيت التالي، يقتلون من يريدون قتله ويعتقلون من يريدون اعتقاله، وهكذا من بيت لبيت ومن فجوة لفجوة، تنشق الجدران عن جنود "جيش الدفاع" كما في أفلام رامبو وحروب هوليوود. نحن وضيوفنا دخلنا مثلهم من إحدي هذه الفجوات واستمعنا لرواية الأهالي عن هذا النمط المتكرر من الاقتحامات. بعضهم دلنا علي مواقع الفجوات في الجدران من آثار اقتحامات سابقة بعد أن رمموها بشكل عشوائي وبمواد بسيطة.
عندما تجولنا في أزقة المخيم شبّه أحدهم الأمهات الفلسطينيات الواقفات صفوفاً أمام بيوتهن ب"جوقة المرتّلات في التراجيديا الإغريقية".
أما اقتحام الجيش للبيوت داخل المدن فيتم باختطاف شخص ما واتخاذه درعاً بشرياً، يرغمونه علي الصعود إلي الدبابة كما حدث مع صديقي حسام ذات مرة، ويطلبون منه تحت تهديد السلاح قرع جرس بيت من بيوت الجيران التي يريدون اعتقال أحد أفرادها معلناً عن اسمه، فيفتحون له الباب مطمئنين، فيندلق الجنود إلي الداخل. كل ما فعله حسام أنه اصطحب زوجته في اليوم التالي، زائراً جيرانه مفسراً لهم الأمر، لكنه اكتشف أنه لم يكن بحاجة للتفسير. الجيران، ككل سكان المدينة، تعودوا علي هذا الأسلوب لكثرة تكراره وسبق أن تعرّضوا لما تعرّض له.
دخلنا إلي مدرسة هي مركز تدريب علي الكمبيوتر في "الأمعري"، فوجدنا الأرض ركاماً من الأوراق والبلاستيك والأسلاك والوصلات وأجهزة الكمبيوتر منبعجة متفسخة والكراسي محطمة وحفر الرصاص علي كل الجدران. عندما سألنا عن مصير الأطفال قالوا لنا إن الجيش أخرجهم أولاً ولم يصبهم بأذي. كان الهدف هو تدمير المدرسة وأجهزة الكمبيوتر فقط. ولا يعرف معني تدمير مدرسة فلسطينية في مخيم للاجئين إلا من عاش أو سمع حكاية الفلسطينيين مع التعليم والدراسة. فبعد التهجير الجماعي الذي نجم عن النكبة عام 1948 عاش اللاجئون في خيم نصبتها لهم وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة "الأنروا" في الأردن وسوريا ولبنان، وكانت تقدم لهم ما يسد الرمق من المعونات كالطحين والبرغل والسكّر وبعض الملابس وتوزع ذلك كله في أكياس من الخيش يصنع منها اللاجئون بدورهم ثياباً رثة المنظر وسراويل داخلية وكنت تري الأطفال أمام خيمهم وعلي مؤخراتهم أعلام أمريكا وبريطانيا وكندا وغيرها وتحتها كلمات مثل "هدية من كندا" أو "من الشعب الأمريكي أو "النقطة الرابعة" بشعارها الشهير الذي هو يدان تتصافحان. المهم أن الأنروا كانت ترفض إقامة مدارس لهؤلاء الأطفال رغم إلحاح ذويهم، فهم وقد تحولوا إلي فقراء لا يريدون أن يتحولوا إلي جهلاء وأميين. قال لي أحد المدرسين الأوائل في تلك المخيمات أنه تمكن من إنشاء أول مدرسة في المخيم بعد عامين كاملين من النكبة أي عام 1950 وأنه وضع ستّين طالباً في الخيمة الواحدة. وكل ما قدمته لهم الأنروا هو الطباشير والسبورة السوداء. أحضر لوحاً خشبياً وكتب عليه كلمة "مدرسة" وتحتها كلمة Schoolبالإنجليزية وثبت اللوح علي رأس خشبة ودقها في العراء. كان الأطفال يعتبرون المدرسة نعيماً مقارنة بسأم المخيم. إلي هذا الحد، حد الشغف واللهفة.
كان وجع أهالي مخيم الأمعري علي هدم مدرسة الكمبيوتر وجعاً حقيقياً رغم أنهم كالعادة تعلموا أن يتجاوزوا أوجاعهم بسرعة. ففي الصراعات الطويلة يعيش الطرف الأضعف ما يمكن أن أسميه "وجعاً تاريخياً". في هذه الصراعات تتكرر الحادثة والكلمة والدمعة، يتكرر كل شيء، يتكرر اليأس ويتكرر الأمل. تتكرر البطولة والخيانة. يتكرر الدم وتتكرر المراثي. في الصراعات الطويلة لا حاجة بنا لانتظار المجزرة حتي يعقبها الوجع، ولا حاجة بنا لانتظار تكوّن الواقع حتي يتكوّن الفن. هناك دائماً فيما كتبناه في الماضي ما يصلح تماماً لوصف المستقبل.
إن أقسي درجات المنفي أن لا يكون الإنسان مرئياً. أن لا يُسمح له بأن يروي روايته بنفسه. والشعب الفلسطيني يرويه أعداؤه ويضعون له التعريف الذي يناسب حضورَهم وغيابَه. يلصقون علي جبينه الوصمةَ التي يريدون. مسموحٌ للطرف الأضعف في أي صراع أن يصرخ، مسموح له أن يشكو، مسموح له أن يبكي، ولكن ليس مسموحاً له أن يحكي حكايته أبداً. الصراع علي الأرض يصبح صراعاً علي الحكاية. وشيئاً فشيئاً يكتشف الضعيف أن عدوه لا يأذن له بأن يكون "مظلوماً". العدو يأذن له أن يكون "مخطئاً" فقط. وناقصاً فقط، ويستحق الألم لأنه يجلبه لنفسه نتيجة نقصانه وعيوبه هو لا نتيجة لسلوك العدو. وهذه أقسي حالات غياب العدالة. وغياب العدالة منفي، والتنميط منفي وسوء الفهم منفي. وبهذا المعني فإن الشعب الفلسطيني كله منفيّ لأن حكايته غائبة. في هذه الزيارة رأي عدد قليل من كتّاب العالم بعض ملامح الرواية الفلسطينية وأصبح منفانا أقل قليلاً.
كنت أسير مع الكتاب وأري الأمهات، مرتّلاتِ التراجيديا الإغريقية، يحاولن الاحتجاج علي مآسي الفقد وتكرار القتل بالتواصل مع هؤلاء الأجانب بلغة لا يعرفونها.
في حديث لمحطة إذاعية قال ساراماجو:
كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطَّم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمك علي الأرض لتعرف حقاً ما الذي يجري هنا. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم أن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف إنها أمور لا تغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
لكن الدنيا قامت ولم تقعد بسبب مقارنة ساراماجو في هذا الحديث بين جرائم الاحتلال الإسرائيلي وجرائم النازي عندما قال إن الفلسطينيين يعيشون في معسكر اعتقال كبير وشبّه رام الله بأوشفيتز.
لم يجد برايتن برايتنباخ صعوبة في مقارنة الوضع بما عاشه في ظل نظام الفصل العنصري في بلده جنوب إفريقيا، والروائي الأمريكي راسل بانكس أثاره أن "جنود الاحتلال يبدون شباناً أنيقي المظهر، "انظر، هذا الفتي يقوم بعمله بصورة أفضل مما يجب"، الجندي الأنيق المظهر يتفحَّص بطاقات الكتاب علي الحاجز العسكري، بملامح خالية تماماً من أي تعبير. لكن ما أقام الدنيا ولم يقعدها كان خوسيه ساراماجو إذ قارن بين الوضع في رام الله وأوشفيتز.
انبري لمهاجمته أهل السياسة الإسرائيليين وأهل الأدب أمثال عاموس عوز وأ.ب. يهوشواع ومعظم مثقفي إسرائيل (المناصرين للسلام إلي أن تحاربنا حكومتهم فيناصرون الحرب!) واتهموه بمعاداة السامية و"بالعمي الأخلاقي" ومن بعيد أطل برأسه الروائي المجري إمري كيرتيس ليضم صوته المتوّج بجائزة نوبل إلي الأصوات التي قررت أن ساراماجو كاتب "رديء وفاشل" أصلاً، ومعاد للسامية في كل الأحوال! طالب البعض بإزالة رواياته عن رفوف المكتبات ومقاطعة كل ما ينشر، أما وزارة الخارجية الإسرائيلية فقالت "إن السيد ساراماجو وقع ضحية الدعاية الفلسطينية الرخيصة".
فكيف رَدَّ ساراماجو؟
ساراماجو قال:
- "إني أفضِّل أن أكون ضحية الدعاية الفلسطينية "الرخيصة" بدلاً من أن أكون ضحية الدعاية الإسرائيلية "الباهظة التكاليف"!
في المستقبل، بعد زيارة وفد الكتاب بأيام قليلة، عندما يقوم الجيش الإسرائيلي باقتحام مخيم جنين، وبسبب وجود عدد محدود من المقاومين الفلسطينيين داخل المخيم تقوم طائرات الأباتشي والإفF16 بقصفه، وتنجح في مسحه عن وجه الأرض. وتتقدم الجرافات والبولدوزرات تهبّط البيوت بمن فيها.
سيقوم العالم كله ضد مجزرة جنين ولكنه سرعان ما تأمره أمريكا بالقعود، فيقعد.
يقرر مجلس الأمن إرسال لجنة تحقيق دولية للكشف عما جري في المخيم.
يصل أفراد اللجنة إلي جنيف في طريقهم إلي إسرائيل.
إسرائيل تعلن أنها ترفض استقبالهم.
ينتهي الأمر عند هذه النقطة. بكل بساطة. ينتهي الأمر. ويعود الوفد من حيث أتي.
(...) في صحبة الوفد نتوجه لزيارة جامعة بيرزيت. ينطلق موكب سياراتنا من رام الله ليتوقف عند حاجز سُردا في منتصف الطريق إلي الجامعة. الجيش الإسرائيلي كان قد دمر هذا الطريق الجبلي صانعاً فيه ما يشبه خندقاً بطول 500 متر أو أكثر قليلاً، لا يمكن اجتيازه إلا سيراً علي الأقدام. وبشيء من الصعوبة. علي تلةٍ بجانب الطريق يوجد منزل كبير لأحد الفلسطينيين احتله الجيش وطرد سكانه منه وحوله إلي نقطة عسكرية لمراقبة كل شيء يتحرك، وغرفة عمليات تقرر إغلاق الطريق في أي وقت تشاء، وغطي واجهة المنزل كلها بقماش عسكري أخضر مخرّم تظهر من فتحاته مواسير الرشاشات المصوبة علي المارة من الحاجز. تتوقفت السيارات التي حملتنا من رام الله، وننزل منها لنقطع الخندق سيراً علي الأقدام. أواصل حديثاً عن المسرح مع وولي شوينكا ونحن نحاول تجنب التعثر وبجوارنا يواصل الآخرون نقاشاتهم الأدبية والسياسية وأجسامهم تدنو وتتباعد حسب وعورة الجرف: ساراماغو وجواتيسولو وبرايتنباخ وكونسولو وبي داو وراسل بانكس ومحمود درويش ينقلون الخطي بحذر المسنين داخل ذلك الجرف ويردّون تحيات المارّة بجوارهم من طلاب وأساتذة وباعة متجولين، فهذا الخندق الوعر هو الطريق الوحيد لجميع المسافرين بين رام الله وكل قري الشمال وهذا هو الوضع منذ عام كامل. يشدني وولي شوينكا جانباً ليفسح الطريق لشاب يحمل فلاحة مسنّة علي ظهره، ويسير بها في حذر شديد وهي تردد:
- الله يغضب عليهم دنيا وآخرة
ثم تعيد غطاء رأسها ممسكة طرفه بين أسنانها حتي لا ينحسر تماماً عن شعرها الأبيض. سيدة أجنبية متقدمة في السن تمشي بجوار حمار آخر، في خُرْجَيْه حقيبتا سفر تتأرجح من إحداهما بطاقة "ديلسي" تدل علي ماركة الحقيبة الفخمة. لم تتخيل مصانع "ديلسي" أن تنقل الحمير حقائبها هنا. بعد أمتار قليلة نفسح الطريق لحمار آخر تركبه امرأة حامل، يقوده ولد عمره سبع سنوات أو أكثر قليلاً، واضح أنه يتدبر رزقه بتأجير الحمار علي الحاجز، يتلفَّت حوله مندهشاً من الوجوه الأجنبية في هذه البقعة من العالم. ساراماغو، وهو يتأمل المشهد ويتلفت إلي التلال وبيوت القرويين الفلسطينيين، وبنادق الجيش الإسرائيلي مصوبة علينا من بعيد، يقول بصوته العميق البالغ الوقار "لليلي شهيد"، سفيرتنا لدي فرنسا:
- ليلي، هذا يذكّرني بمعسكرات الاعتقال، الشعب هنا يعيش في معسكر اعتقال، إنه معسكر اعتقال حقيقي. هذا ما أراه.
(...) في الجامعة يجري لقاء مع الأساتذة. بعد الاجتماع يطلب منا رئيس الجامعة أن نكتب كلمات قصيرة ونوقع بأسمائنا جميعاً علي لوحة بيضاء ستحتفظ بها الجامعة تذكاراً للزيارة. كنت أقف بجوار ساراماغو أنتظر أن ينتهي من كتابة كلمته، حتي أكتب كلمتي. أراه يرسم وردة ويكتب تحتها بالبرتغالية: "الدولة الفلسطينية" ثم يكتب تحتها
قطرة ماء من أجل هذه الوردة.
ويوقع:
خوسيه ساراماجو.
يمر العشاء كما تمر العشاءات الكبيرة، أحاديث جانبية لا تكتمل تقطعها مصافحات مهذبة وعبارات تعارف ومجاملة وتعليق علي الطعام ومقدار لا بأس به من النميمة. لا يخلو الأمر من طرائف تتعلق بسلوك هذا الكاتب أو ذاك. في اليوم التالي سوف يتم اللقاء المرتجل مع ياسر عرفات، في مقره المحاصر في مبني المقاطعة، دون جديد، سوي ما لاحظه الوفد من بساطة مكتبه وإجاباته المجازيّة علي أسئلتهم.
(...) في اليوم التالي كان لقائي بمروان البرغوثي. أدركت أن غيابه عن نشاطاتنا مع وفد الكتّاب العالميين راجع لحذره الأمني، وهو القارئ الجيد والمتابع للكتابات السياسية والأدبية في العالم العربي، لكنه تابع مواقف وتصريحات كريستيان سالمون وولي شوينكا وبرايتين برايتبنباخ وساراماجو وجواتسولو من مَكْمَنِه، وتحدث طويلا عن ضرورة أن تعود فلسطين لتصبح الملتقي الأخلاقي لأصحاب الضمير في العالم كله.
لم أكن أعلم ولا هو كان يعلم أنه بعد أيام، سيتم اعتقاله ليغيب طويلاً في سجون الاحتلال، وتخسر فلسطين جهد أحد رجالها النظيفين.
(...) الحدث الأجمل في زيارة الكتاب كان في مسرح القصبة في رام الله، في أمسية القراءات المشتركة بين الشعراء الفلسطينيين والكتاب الضيوف، كان نجم الليلة هو الجمهور الذي تجاوز الألف من النساء والرجال الذين جاءوا إلي المسرح من كل مكان رغم الحصار، سهروا حتي منتصف الليل، رغم مخاطر الحواجز ومنغصاتها، من أجل الشعر والأدب وللترحيب بضيوفهم الكتاب. أصغي الجمهور لقراءات بلغات لا يعرفونها إصغاء احترام ومتعة تسمع فيه رنة الإبرة، وكانوا في نهاية الأمسية قد مسَّهم سحرها فصفّقوا واقفين لدقائق طويلة. مسرح وسينماتيك القصبة هذا كان سابقاً دار سينما الجميل القريبة جداً من بيتنا في عمارة اللفتاوي وقد حوّله المخرج والممثل المسرحي جورج ابراهيم إلي وضعه الأنيق الحالي. أحب أهل رام الله المكان ونشطت فرق المسرحيين المحترفين والهواة في تقديم أعمالها المختلفة علي خشبته.
في المستقبل التالي مباشرة لهذه الأمسية النادرة، بعد ثلاثة أيام فقط من سفر الضيوف، سوف تقتحم الدبابات الإسرائيلية مدينة رام الله وتدوس مسرح القصبة. سيقتحمه الجنود ويدمرون الديكورات واللوحات والستائر والمقاعد بينما أصداء قراءاتنا وقراءات ضيوفنا ما زالت تتردَّد في هواء المكان، وسيكتب صحفي عن هذه الواقعة بعد ذلك قائلاً:
- "كأنهم كانوا يحاولون تحطيم كل احتمال لاستعادة الكلام"
كما سيقتحمون مبني وزارة الثقافة الفلسطينية وهو بناية عالية تطل علي مقر عرفات ويدمرونه ويتركونه مليئا بالقاذورات. سيرتكبون نفس الأفعال في كل مدن الضفة (الغربية) وسيتركون قتلانا علي أبواب البيوت.
أكثر ما يفزعني أن نعتاد الموت، كأنه حصة وحيدة أو نتيجة محتومة علينا توقعها في كل مواجهة. أريد أن نفكر في روعة الحياة مع كل انتصار مؤقت للموت. أسأل نفسي في قصيدة سأكتبها في المستقبل:
لماذا، كلما رأيت قتيلاً مسجّي
ظننته شخصاً يُفَكِّرْ؟
مقتطفات من كتاب "ولدت هناك، ولدت هنا"،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.