«الوطنية لا تمنع ولا تمنح».. هذه العبارة.. عرفت طريقها إلى عقلى ووجدانى منذ عقود.. وهى تنطبق على أهالينا الواقعين على خط النار.. على الحدود الفاصلة بيننا وبين أشقائنا فى المشرق والمغرب أو الجنوب.. فدائمًا ما يكون ويتشكل تراث ثقافى مشترك بينهم وبين أشقائهم بحكم الجوار.. فمثلاً أهالينا فى سيناء تراهم يتأثرون بثقافة المشرق العربى بعامة.. فى حين أن أهالينا فى الجنوب تراهم يتميزون بالثقافة الافريقية الغالبة.. ومن هنا يأتى التنوع الثقافى المصرى والذى يجسد ثراء مصر ثقافيًا وحضاريًا والذى يزيد الوطنية ولا ينتقص منها. لكأنها الشجرة العفية الباسقة، التى تمتد جذورها فى الموقع المتميز، والمكانة الجغرافية إلى آلاف السنين.. فى حين تتنوع فروعها وتختلف لتؤكد وحدتها وتماسكها عبر رحلة الزمان.. نعم إنه التنوع فى الوحدة، والوحدة فى التنوع.. وهكذا يرونها العشاق.. الذين يحرصون على سد الذرائع.. لا فتح ثغرات تنفذ منها رياح مسمومة نراها تحيطنا من كل جانب خاصة أن التماسك الاجتماعى، والوحدة الوطنية.. هى الدرع الواقية والمتينة ضد أى تهديد للأمة.. سواء جاء كمؤامرات من الخارج.. أو توارى خلف أستار رمادية فى الداخل. من هنا نبع الألم الكبير.. أمام الاعتصام الذى قام به شباب النوبة فى الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر عام 2016.. وهو المعروف عنه وعن أهل النوبة بعامة.. انتماؤهم الأصيل لهذا الوطن.. رغم قسوة ما مروا به من تهجير قسرى، منذ قرن أو يزيد عام 1902 تهجير للمواقع والقرى «44» قرية نشأ فيها الأجداد على ضفاف النيل العظيم.. حد أنهم وصفوا ذلك بالنكبة النوبية! وهذا لا ينفى أنهم أصحاب حضارة ضاربة فى عمق الزمان وقد سموا «بأهل النهر».. أو «ناس النهر» لالتصاقهم به.. واكتساب ملامح تشبه النيل العظيم.. فى السمرة والصدق والبساطة والصلابة.. وقد لمسنا ذلك فى العديد من الأدبيات فى الرواية، والمسرح.. وقد ظل الصوت البارز هو التمسك بالعودة إلى قراهم متى توفرت الشروط الموضوعية لذلك.. نعم لقد ضحوا من أجل تطوير الزراعة فى مصر.. ونهضتنا.. فى بناء خزان أسوان عام 1902 غمرت بعض القرى.. ثم تلى ذلك قرى أخرى عام 1912.. التعلية الأولى ثم عام 1933 التعلية الثانية.. ثم جاء التهجير الكبير بعد بناء السد العالى عام 1964. حكومات عديدة أتت.. سمعت الصوت.. ولم تفعل شيئًا.. وعبر هذه العقود المتعاقبة أيضًا.. لم يخفت صوت النوبى.. بل ظل يؤكد الخصوصية ويطالب بالعودة.. وفى ثورة 25 يناير عام 2011.. وفى ميدان التحرير جذبتنى شابة نوبية عرفتنى بنفسها وبمجموعة الشباب المشارك.. وظلوا يهتفون إلى العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.. وقبل أن ينصرفوا أودعوا أمانتهم فى ورقة وضعتها الشابة فى يدى وانصرفت.. وعندما فتحتها قرأت هذه العبارة.. نرجوكم ألا تنسوا حلم النوبى فى العودة إلى قراه.. حتى لو بدأ من الصفر! استرجعت هذا المشهد.. وأنا أتابع الاعتصام المؤلم.. نعم مؤلم لأن الدولة المصرية كانت فى غنى عنه.. إذا ما ترجمت الحكومة ومعها مجلس النواب بنود دستور 2014 وبخاصة المادة «236» التى تنص على حقوق أهل النوبة وإعادة التوطين.. وهى تؤكد «تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة.. ومنها الصعيد، وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية، وفى أولوية الاستفادة منها مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى خلال 10 سنوات من تاريخ العمل بالدستور». فما الذى حدث حتى تنفجر ينابيع الغضب لدى هذا الشباب الذى ساهم فى الثورات «يناير ويونية» رغم ألمه ومرارته.. والذى ظل متمسكًا بالحلم طيلة عقود طويلة.. وعبر حكومات عديدة.. ومر الزمن بين التسويف.. والتأجيل لكنه لم يكفر.. ولم ينس.. وكان دومًا يؤجل الحلم من أجل الصالح العام. فما الذى تغير فجأة؟! لقد فوجئ الشباب بتجاهل الدستور.. بل تجاهل القضية النوبية وإعطاء الأولوية لرجال الأعمال كى يستثمروا فى أرض أجداده وبالتالى ينطمس الحكم ويوأد إلى غير رجعة!! إن مشروع استصلاح المليون ونصف فدان.. والذى يتضمن بعض القرى النوبية القديمة وبخاصة «خورقندى» سيحصل عليه رجال الأعمال.. أما هؤلاء الفقراء المصريون فيتولاهم الله.. ومن هنا جن جنون الشباب.. وما كان منه إلا أن ينتفض ويعتصم ويتجمهر.. فما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟! عندئذ أدركت الحكومة «السهو» الذى وقعت فيه.. فهل كان حقًا «سهوًا» أم مكيدة؟ أم سياسة تتبعها الحكومة السنية تجاه فقراء مصر.. لا تفرق فى ثقافة التنوع.. فجميعهم فقراء يجمعهم الفقر والصوت الواطى الذى من الممكن إغفاله؟! لأن صوت الأغنياء من رجال الأعمال هو الأعلى.. وهو الأولى بالرعاية والتدليل.. انظر من فضلك ماذا فعلت حكومتنا السنية.. فى تعويم الجنيه.. ورفع أسعار الطاقة.. الأمر الذى أصاب فقراء الوطن بل وطبقاته المتوسطة أو ما فوقها بالأنين والألم.. نعم هم يكتمون أصواتهم.. خشية على الوطن والدولة.. ولكن إلى متى سيستمر هذا الوطن؟.. هل سيستمر بالمسكنات والاسبرين.. أم أن الشرط الأول لاستمرار الاستقرار هو أن يمكن الفقراء من حق المأكل والمشرب والتعليم والعلاج؟ وليعلم الجميع.. أن صوت النوبى تحصن ضد الخوف وعمليات الاقصاء عقب الثورتين «يناير ويونية» واسترد شجاعته.. وبالتالى صار امتدادًا حيًا لما تكوَّن منذ فجر التاريخ على ضفاف النيل.. النوبة القديمة.. والتى هى أصل من الأصول المصرية القديمة.. بل إن اللغة النوبية بشفرتها كانت سلاح الاشارة فى نصر أكتوبر العظيم.