كان كل شيء في ملامح هذا الفتى البيروتي الواعد المغرم بجمال عبد الناصر في منتصف الستينات من القرن الماضي يشي بروح عالية من الالتزام القومي وبرغبة عارمة في تثقيف الذات كي يكون قادراً على فهم ما يجري حوله، بل على تثقيف غيره ايضاً، وقد "تخرج" على يديه العديد من الشباب اللبناني والعربي. كنت التقيه قبل ما يزيد عن نصف قرن في مكتبة رأس بيروت لصاحبها استاذنا الكبير الراحل المؤرخ شفيق جحا (والد صلاح جحا زميل سمير في الدراسة والناصرية والذي كان مرشحاً لأن يكون نائباً عن بيروت عام 1972 لولا فارق اشهر في عمره حالت دون ترشيح اتحاد قوى الشعب العامل له في انتخابات 1972)، كان الفتى سمير طرابلسي يتنقل يومها بين الكتب كما الفراشة بين الورود، أو كما النحلة بين الأزهار، ليفيض بعدها عبيراً فكرياً أو عسلاً ثقافياً بين ابناء جيله. وجمعتنا بعدها السنوات والعقود، كما الملتقيات والمنتديات والاجتماعات واللقاءات، المسيرات والاعتصامات، كما جمعنا، كل من موقعه، الرفض الحاسم لممهدات "العصر الاسرائيلي" وتداعياته قبل غزو 1982 وبعده، وهي تلك الحرب الطائفية فالمذهبية البغيضة التي ما زالت تطل علينا بخطابها ومنطقها وعصبياتها حتى الساعة مستهدفة الوطنية اللبنانية أولاً ومن خلالها العروبة الجامعة. نقاط التلاقي الفكري بيننا كانت كثيرة، وكذلك المحطات النضالية المشتركة التي جمعتنا، إلا ان فكرتين حملنها مع المهندس الراحل سمير طرابلسي لم تغب عنا رغم ان حملهما كان معاكساً للتيار السائد.... الفكرة الاولى هي الايمان بالشباب ودورهم، فهم "نصف الحاضر وكل المستقبل" كما قال يوما جمال عبد الناصر، وهم رايات التغيير المنشود وان طال الزمن. كانت الفكرة الرائجة في مجتمعاتنا خلال العقود الاربعة الماضية هي فكرة الاستخفاف بالشباب وهذا الجيل الغارق في اللهو، البعيد عن هموم وطنه وأمته، الموزعة اهتماماته بين الرياضة والرقص وتقليد "الصرعات" الوافدة الينا من الغرب، لكن سمير لم يجار اصحاب هذه الأفكار المستهترة بقدرات الشباب ودورهم، فكان يمضي سنوات عمره بينهم، مهتماً ببناء "اتحاد الشباب الوطني" الذي نجتمع اليوم حول ذكرى ابي وسام ببادرة وفاء منه، وكنا نقول "أزمة المشاركة الشبابية ليست فيهم، بل في الأطر والآليات والقضايا التي تقدمها الأجيال الأقدم متجاهلة قولاً للامام علي (ع) لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم ، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم". وجاءت الايام لتثبت سلامة نظرتنا وسمير الطرابلسي الى الشباب ، فهم يسطرون بدمائهم وبشجاعتهم ملاحم المقاومة العربية، في فلسطينولبنان والعراق وكل ارض عربية، وهم يشكلون باندفاعهم مادة الانتفاضات المتلاحقة في فلسطين وصولاً الى انتفاضة السكاكين التي يقدم فيها شباب فلسطين وشاباتها أروع الأمثلة على البطولة والفداء، بل هم شكلوا وما زالوا روح الحراك الشعبي الثوري المستمر في الأمة، كما في لبنان بالذات، تأكيداً على حيوية الامة ورفضها للأمر الواقع رغم كل ما جرى ويجري لحرف هذا الحراك الأصيل عن وجهته الاساسية وتشويهه وتزييفه. ومثلما كان سمير مؤمناً بدور الشباب القيادي في مجتمعاتنا العربية، لم يقع كغيره في مرض "تأليه" الشباب الذي وقع به كثيرون بعد حركتهم المدوية قبل خمس سنوات، بل كان من الذين يحذرون وينبهون من مخاطر فوضى سيستغلها أعداء الشباب إذا لم يتسلح هؤلاء الشباب بالوعي والتنظيم والاستفادة من خبرات أجيال سبقتهم ومن حكمتها ايضا، مدركاً ان انتصار الامم يحتاج الى عربة بجوادين اولهما حيوية الشباب وثوريتهم وثانيهما حكمة الشيوخ وخبرتهم... كما كان مدركاً ان تجزئة الامة ليس فقط في تجزئة الاقطار وتمزيقها، بل هي ايضا في فصل حاضرها عن ماضيها، وفي فصل أجيالها عن بعضها البعض... فكنا، كما سمير طرابلسي، نؤمن بتواصل الشباب فيما بينهم، وتواصلهم مع اجيال سبقت، فأسهمنا معا في" برنامج شباب لبنان الواحد" والموؤد وفي اطلاق ندوات "حوار الاجيال" وفي المنتدى القومي العربي والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن في تنظيم ندوات التواصل الشبابي العربي الفكرية منذ اكثر خمس سنوات، ونحن على ابواب الندوة السادسة في 19 و20 من الشهر القادم. اما الفكرة الثانية التي أصر سمير واخوانه العروبيون والناصريون الاصيلون على التمسك بها، بل وبالسباحة، بها ومعها، عكس التيار السائد، فهي فكرة العروبة الديمقراطية التقدمية الجامعة العابرة لكل العصبيات والحواجز الاقليمية والطائفية والمذهبية والعنصرية. كان كل شيء في العقود الماضية يسير باتجاه شيطنة العروبة وربطها، وهي الهوية الثقافية الجامعة المنطوية على مشروع عربي للنهوض، بممارسات انظمة او تجاوزات اجهزة او عصبيات احزاب وحركات، لكن سمير وامثاله كانوا واثقين بأن كل المشاريع التي قدمها الاعداء او قصيرو النظر لالغاء العروبة ومشروعها الوحدوي، لم تقدم حلاً لقضايا الامة، بل كثيراً ما كانت تضيف مشكلات اضافية الى مشاكلها الراهنة... ففي زمن الاحتراب الاهلي والاصطراع الداخلي وعصبيات التفتيت والتخلف ومنطق الغلو والتوحش، تقدم العروبة نفسها، كهوية، والتكامل والوحدة كمشروع، والعدالة والتنمية والمواطنة كاهداف، والمقاومة والنضال كخيار ونهج ووسائل، من اجل الحلول الحقيقية لكل ما تواجهه امتنا من تحديات.... كان سمير مصطفى طرابلسي وأمثاله من المدركين بعمق للتلازم بين العروبة والشباب، فتستعيد العروبة من خلالهم شباب الامة، كما يستعيد هؤلاء الشباب دورهم الطليعي من خلال تمسكهم بهويتهم الثقافية الانسانية الجامعة التي ترفض العنصرية بكل اشكالها، والطائفية بكل الوانها، والمذهبية بكل لغاتها، والعرقية بكل تجلياتها، بل عروبة الحضارة الانسانية التي ساهم فيها أبناء هذا الوطن الكبير وساكنوه أيّاً تكن جذورهم وانتماءاتهم الدينية والأثنية. لم يستسلم سمير لكل امراض مجتمعه وأمته وبقي يقاومها حتى الرمق الأخير، فأرتقى الى ربه شهيداً، فإذا كان الشهيد هو من يرتقي الى علياء ربه، في معركة او عملية بطولية من اجل قضية عادلة فكيف بالذي يعطي كل لحظة من حياته من اجل قضايا امته العادلة... انه الشهيد الحي ، او الشهيد المستمر بعطائه حتى استرد الله امانته...