حدثان وقعا امس كانا علي درجة كبيرة من الاهمية من حيث دلالاتهما السياسية والاستراتيجية، الاول: توقف تدفق الغاز المصري الي اسرائيل بعد تفجير خط الانابيب الناقل له من قبل مجموعة مجهولة استهدفته في صحراء سيناء.. الثاني: توصل حركتي 'فتح' و'حماس' الي 'تفاهمات' بعد اجتماعات مكثفة في القاهرة، تنص علي تشكيل حكومة انتقالية من شخصيات فلسطينية مستقلة، تشرف علي انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام. بالطبع فاننا نعارض اي عمل يمس الامن القومي المصري، ولكن من الانصاف القول ان الهجوم علي انبوب الغاز في العريش يتساوق مع مشاعر الغضب والكراهية التي يكنها المصريون لاسرائيل والعلاقات التجارية قبل الدبلوماسية معها، ورفضهم بيع الغاز المصري بأسعار اقل كثيرا من سعره في الاسواق العالمية.. بل لا نبالغ اذا قلنا ان الغالبية الساحقة من الشعب المصري لا تريد بيع اي غاز مصري لاسرائيل حتي بعشرة اضعاف سعر السوق. فاحدث استطلاعات الرأي التي اجريت قبل اسبوع كشفت ان اكثر من نصف الشعب المصري يريد الغاء اتفاقات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس محمد انور السادات عام 1979، وعودة مصر بالتالي الي مواقفها الوطنية الصلبة في مواجهة الغطرسة الاسرائيلية وما ينتج عنها من احتلالات للارض العربية وسياسات استيطانية عدوانية. ولعله ليس من قبيل الصدفة ان يقع الهجوم علي انبوب الغاز المصري المتجه الي اسرائيل، وتعطيله بالكامل، في وقت تتواصل فيه التحقيقات مع السيدين علاء وجمال مبارك في سجن طرة بتهمة تلقي عمولات ضخمة من وراء عقود وصفقات بيع الغاز الي اسرائيل، فهناك شبهات بان رجل اعمال مصرياً كبيراً كان واجهة نجلي الرئيس في هذه الصفقات. ايقاف الغاز المصري الي اسرائيل، التي بدأت تعد العدة فعلا لهذه الخطوة، وتبحث عن البدائل في اماكن اخري، لا يجب ان يتم من خلال التفجير في رأينا، وانما من خلال قرار سيادي من المحكمة المصرية التي تبحث حالياً دعوي مقدمة من السفير ابراهيم يسري، هذا الرجل الشجاع الذي سخر ما تبقي من حياته لفضح جميع حلقات الفساد المتعلقة بصفقات الغاز، ومنع اي غاز مصري عن اسرائيل لاسباب مبدئية تتعلق برفضه الكامل لاتفاقات كامب ديفيد. رجل اعمال فلسطيني كبير علي دراية كاملة بملف الغاز المصري وصفقاته المذكورة بحكم دوره في التفاوض مع الطرف الاسرائيلي لاشهر عدة لبيع غاز قطاع غزة الي اسرائيل 'القطاع ما زال تحت الاحتلال الاسرائيلي من الناحية القانونية' اكد لي شخصياً انه رفض صفقة مماثلة للصفقة المصرية، وبالاسعار نفسها، لان الغاز المصري كان يباع في حينه باقل من ثلاثة دولارات للمتر المكعب، بينما سعره الحقيقي في الاسواق الدولية ضعف الثمن المذكور. اما دلالة الحدث الثاني، وهو توقيع طرفي المعادلة السياسية الفلسطينية، اي حركتي 'فتح' و'حماس' علي اتفاق مصالحة ينهي الانقسام الفلسطيني، فتتلخص في عودة مصر بقوة لدورها القيادي في المنطقة العربية كرافعة اساسية للقضية العربية المركزية، وهذا تطور كبير ولافت يستحق الثناء والترحيب. المصالحة الفلسطينية تعثرت لان نوايا الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ونظامه لم تكن سليمة، فالرئيس مبارك كان يريد توظيف هذه المصالحة في خدمة المخططات الاسرائيلية، من حيث جر حركة حماس والفصائل الفلسطينية الاخري الي مستنقع المفاوضات العبثية، وتحويل الفلسطينيين جميعاً الي حراس لاسرائيل ومستوطناتها. مصر الثورة تتعاطي مع الملف الفلسطيني بطريقة مختلفة كلياً، وتتبع استراتيجية تتماشي مع تطلعات الشعب المصري ومشاعره الحقيقية المشرفة تجاه الاغتصاب الاسرائيلي للارض المحتلة، فالسيد نبيل العربي وزير الخارجية الذي خلف احمد ابو الغيط اكد منذ اللحظة الاولي ان بلاده تعارض بشدة اي عدوان اسرائيلي علي قطاع غزة، واتهمت اسرائيل المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم بانه كان يعارض تشديد الحصار علي قطاع غزة ومنع تهريب اسلحة علي عكس اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات والذراع اليمني للرئيس حسني مبارك. الوحدة الوطنية الفلسطينية هي أخطر سلاح موجه الي اسرائيل، خاصة انها تعود بقوة مع تأجج الثورات العربية التي تريد الاطاحة بانظمة ديكتاتورية فاسدة، وانهيار نظام مبارك عميد هذه الانظمة، والعمود الفقري في ما يسمي محور الاعتدال العربي الذي كان يستجدي السلام مع اسرائيل، ويقيم علاقات تطبيعية معها، ويتآمر علي حركات المقاومة في كل من فلسطين ولبنان. ومن هنا لم نستغرب اصابة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل بحالة من الهلع وانعدام الوزن بعد سماعه انباء توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية، وهو هلع عبر عنه في تصريحاته التي اطلقها يوم امس وقال فيها ان علي الرئيس الفلسطيني محمود عباس ان يختار بين اسرائيل وحماس.. وانه لا يمكن ان يأمل بتوقيع اتفاق سلام مع اسرائيل اذا مضي قدماً في اتفاق المصالحة هذا. الرئيس محمود عباس اختار السلام مع 'حماس' علي السلام المغشوش والمزور مع اسرائيل، ونعم الخيار، فالتصالح مع ابناء شعبه، ووضع حد لمفاوضات مهينة، هو الرهان الوطني الحقيقي الذي يضع الشعب العربي الفلسطيني علي طريق الحرية والاستقلال بعد سنوات من الاذلال والمهانة علي موائد لئام عملية سلمية لم تثمر الا العدوان علي قطاع غزة، والمزيد من المستوطنات والاقتراب من التفريط بالثوابت الفلسطينية. الشعب الفلسطيني بدأ يتخلص من عقدة الخوف من امريكا واسرائيل معاً، وبات يستعد لاطلاق انتفاضته الثالثة، ولعل نتنياهو، وهو يطلق مثل هذه التهديدات الجوفاء للرئيس عباس، يشعل فتيلها بارتكاب حماقة جديدة علي غرار حماقة آرييل شارون استاذه ومعلمه عام 2000 عندما قرر زيارة المسجد الاقصي وتدنيس باحته في استفزاز علني للشعب الفلسطيني والامة الاسلامية كلها من خلفه. اتفاق المصالحة الفلسطينية سيصمد ليس فقط لانه يجسد طموحات الشعب الفلسطيني، وانما ايضاً لانه يرتكز علي ارضية مصر الثورة، مصر الجديدة، مصر الكرامة والعزة، مصر شباب التحرير التي انتظرناها اكثر من اربعين عاماً وها هي تعود الينا شابة رشيقة تنهض كالمارد من بين ركام الفساد والعبودية لاسرائيل وامريكا. وكما ان نجاح ثورة مصر، جعل من الثورة حالة عربية، فان عودة الدبلوماسية المصرية لتخدم مصلحة امتها بدلا من اعدائها يستطيع ان يغير الموازين الاستراتيجية في المنطقة، وهو ما بدأنا في رؤية بوادره.