تصدر استفتاء بريطانيا حول استمرار عضويتها في الاتحاد الأوروبي اهتمام الساحة الأوروبية في المرحلة الراهنة. ويحتل هذا الموضوع أولوية كبيرة لاسيما عقب خطاب الملكة إليزابيث الثانية أمام برلمان وستمنستر الأسبوع الماضي والذي أعلنت خلاله أن الحكومة ستعيد التفاوض حول علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وأعقب ذلك الخطاب الجولة الأوروبية التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون نهاية الأسبوع الماضي بهدف الترويج لخطته بشأن إجراء تعديلات علي معاهدات الاتحاد الأوروبي للحصول علي تغييرات كبيرة في علاقة بريطانيا بالاتحاد من أهمها مبدأ حرية الحركة وتشديد شروط حصول المواطنين الأوروبيين علي مساعدات اجتماعية. ويعتبر العديد من المراقبين أن جولة كاميرون، والتي زار خلالها كلا من فرنسا وهولندا وبولندا وألمانيا، قد جاءت بنتائج مثمرة لاسيما بعد الدعم الألماني الذي تلقاه من المستشارة أنجيلا ميركل وإعلانها عن استعداد ألمانيا للتوصل إلي اتفاق مع بريطانيا يبقيها في الاتحاد الأوروبي. وتنظر العديد من الدول الأوروبية بعين القلق إلي مقترح إدخال تعديلات علي معاهدة لشبونة المؤسسة للاتحاد الأوروبي وإمكانية الحد من المساعدات الاجتماعية المقدمة للمواطنين الأوروبيين. ومن أبرز تلك الدول بولندا التي قام رئيس الوزراء البريطاني بزيارتها خلال جولته ووجد موقفها متشددا إزاء مقترحاته حيث ترفض بولندا، التي يعمل نحو مليون من رعاياها في بريطانيا، أي احتمال لمعاملتهم بشكل مختلف عن البريطانيين، وهو ما أكدته رئيسة الوزراء البولندية إيفا كوباتش خلال لقائها بكاميرون حيث أشارت إلي أن المحادثات ستكون 'صعبة' في هذا الخصوص. كما تتحفظ دول أوروبا الشرقية، من الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي، علي مقترحات كاميرون بسبب انتقال مئات الآلاف من مواطنيها إلي بريطانيا بحثا عن فرص عمل، مستفيدين من مزايا تخفيف القيود علي الهجرة بين الدول الأعضاء في الاتحاد. وبدأ كاميرون حملته الدبلوماسية بعد تقديم مشروع قانون إلي البرلمان رسميًا يوم الخميس الماضي يفصل آليات الاستفتاء، المزمع عقده قبل نهاية 2017، والذي سيطلب من البريطانيين الإجابة عن سؤال 'هل يجب علي المملكة المتحدة أن تبقي عضوًا في الاتحاد الأوروبي؟'. ومن المقرر أن يبدأ البرلمان النقاش حول هذا القانون في 9 يونيو القادم. وقد أولت حكومة المحافظين أهمية كبيرة لموضوع الاستفتاء بشأن عضوية بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، بناء علي تعهدها قبل انتخابات مايو الماضي بالتفاوض مع دول الاتحاد لوضع حد لتوافد المهاجرين الأوروبيين بكثرة علي بريطانيا واستغلالهم نظام الرفاه الاجتماعي في البلاد. ورغم رفض حزب العمال المعارض في البداية لإجراء هذا الاستفتاء إلا أنه غيًر موقفه وأعلن تأييده لكاميرون في إجراء الاستفتاء مع استمرار موقفه المؤيد لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد. والواقع أن هذا الموقف البريطاني المحافظ لم يكن وليد يوم وليلة بل إنه ناتج عن مجموعة من التطورات التي جعلت المجتمع البريطاني منقسما بداخله حول جدوي الاستمرار داخل الاتحاد الأوروبي من عدمه. فمن ناحية يري كاميرون أن أهمية الاتحاد الأوروبي بالنسبة للبريطانيين ترتكز علي ما يضيفه هذا الاتحاد للأوروبيين من قيمة تتمثل في رفع مستوي معيشتهم ورخائهم. وفي ضوء ذلك يري كاميرون أن سياسات الاتحاد الأوروبي أصبحت أكثر تدخلا وتقييدا لحياة الأوروبيين، أو بمعني آخر أصبحت عبئا كبيرا عليهم. فقد ركز الاتحاد مؤخرا علي تطبيق إجراءات التقشف التي أدت إلي حدوث أطول فترة تراجع لمستوي المعيشة علي الإطلاق بالنسبة إلي الأكثرية فيما ضاعف الأغنياء ثرواتهم، في الوقت الذي تم فيه إهمال السياسات التي تهم المواطن الأوروبي والمتعلقة بخلق فرص عمل وإعادة النمو الاقتصادي إلي الاتحاد. من ناحية أخري، لوحظ مؤخرا أن الاتحاد النقدي الذي رفضت بريطانيا الدخول فيه، أصبح محور اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت جميع القرارات تتطلب تفاوضا من قبل دول منطقة اليورو في البداية، ثم يتم عرضها لاحقا علي باقي دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وهو ما أصبح يشكل حساسية كبيرة لدي الدول غير الأعضاء في منطقة اليورو، وعلي رأسهم بريطانيا. ويتفق عدد كبير من المتخصصين في الشئون الأوروبية علي أنه في حالة اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك سيحمل نتائج سلبية علي الاتحاد. فالمملكة المتحدة هي واحدة من أهم الاقتصاديات العالمية وتعتبر ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وواحدة من أهم القوي العسكرية، فضلا عن كونها عضوا في مجلس الأمن الدولي ودولة نووية عضو في حلف شمال الأطلنطي وبالتالي فإن خروج بلد مهم كهذا من التكتل الأوروبي من شأنه إعطاء انطباع سلبي للغاية عن أوروبا. كما أن هذه الخطوة ستشجع العديد من البلدان الصغيرة علي الخروج من الاتحاد خاصة مع ارتفاع أصوات أوروبية تطالب بانسحاب بلادها من التكتل الأوروبي، وتزايد شعبية الأحزاب اليمينية المناهضة لفكرة الاتحاد. والواقع أن فكرة الاتحاد الأوروبي تعود في جوهرها إلي إدراك الدول الأوروبية أنها لا تستطيع المنافسة دوليا بصورة منفردة، وأن التنسيق المشترك في السياسات الاقتصادية الرئيسية هو الضمان الوحيد لتحقيق أعلي عائد ممكن. لكن الواقع العملي لم يسمح لهذا التصور بالتحقق بصورة تامة، إذ أن حدة المنافسة الاقتصادية بين الدول الأعضاء لا تزال قائمة في عديد من المجالات. كما أن السياسات الاقتصادية قد فشلت في تحقيق انعكاسا ملموسا علي طبقة رجال الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي لا تزال تري أن السوق المحلية وليست السوق الأوروبية هي العامل الأساسي لازدهارها ونموها. بالإضافة لذلك، فشل الاتحاد في تطوير نموذج 'دولة الرفاه' الهادف إلي وجود طبقة وسطي صلبة ومواطنين يتمتعون بخدمات جيدة وقوة شرائية مرتفعة، وذلك بالنظر إلي الارتفاع المتواصل في معدلات البطالة في معظم دول الاتحاد وتراجع المؤشرات الاقتصادية بها. أما بالنسبة لتأثير هذا الانسحاب علي بريطانيا نفسها فقد ظل هذا الأمر غير محسوم، فيري الفريق الأول أن الثمن الاقتصادي للانسحاب سيكون باهظا علي لندن. وفي هذا السياق أظهر معهد أوبن يوروب البحثي أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلي تراجع ملحوظ في اقتصادها حيث سيسفر عن خسارة دائمة تبلغ 2, 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد بحلول 2030 كما أن هذه التكاليف لا يمكن تعويضها فقط من خلال إبرام اتفاقية للتجارة الحرة مع شركائها السابقين. ويدعم هذا الفريق رأيه بأن مجموعة من المصارف المالية والشركات العالمية العاملة في بريطانيا قد قررت نقل مكاتبها أو جزء من عملياتها خارج البلاد وذلك خشية من وقوع مخاطر اقتصادية كبيرة وخسارة آلاف من فرص العمل في حالة تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أعلنت أنها ستعيد النظر في استثمارتها المقبلة في بريطانيا حيث تتوقع أن المناخ الاقتصادي سيكون أقل جاذبية عقب الخروج من الاتحاد الأوروبي. أما الفريق الآخر فهو يري أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يشكل فارقًا كبيرًا في مجال الاقتصاد بل إنه سيحرر بريطانيا من 'أغلال' عضوية الاتحاد الأوروبي مما قد يجعل نموها الاقتصادي يسير بوتيرة أسرع.وهذا التحرر سيمكن بريطانيا من تنظيم أسواق العمل فيها، والتخلي عن سياسات الطاقة المكلفة، والسيطرة علي الهجرة، والانضمام لاتفاقات تجارة حرة مع مناطق أخري، واستيراد المواد الغذائية الرخيصة من أي مكان في العالم. كما يري هذا الفريق أن دول الكومنولث قد تمثل لبريطانيا سوقا أكثر أهمية من الاتحاد الأوروبي سواء من حيث عدد السكان أو معدلات النمو الاقتصادي المتوقع. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن بريطانيا تمتلك عجزًا كبيرًا في الميزان التجاري مع باقي الدول الأوروبية، وهو ما يعني أن هذه الدول سوف تخسر أكثر بكثير من بريطانيا في حال نشوب معركة تجارية بين الجانبين. بالإضافة لذلك يري أصحاب هذا الفريق أن استثمارات الشركات العالمية في المملكة المتحدة لن تتأثر سلبًا في حال الخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث إن هذه الشركات جاءت إلي البلاد بسبب ما تتميز به من سوق كبير، ولغة عالمية، ونظام قانوني مستقر، وسوق عمل يتمتع بالمرونة، فضلا عن معدل ضريبة علي الشركات أقل من معظم البلدان الأوروبية. وإلي حين إنجاز استحقاق الاستفتاء عام 2017، أو قبل، ستظلّ التحليلات والأراء تحاول رصد الآثار الممكنة لهذا الانسحاب البريطاني المحتمل والذي يعد أمرا شديد الأهمية ويمثل اختبارا صعبا أمام الاتحاد الأوروبي. تاريخيًا لم تكن بريطانيا دولة راغبة وداعمة لقيام الاتحاد الأوروبي الذي بدأ باتفاقية روما وتأسست بموجبها الجماعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1957، لكنها حاولت الانضمام في عامي 1963 و1967، لكن جهودها باءت بالفشل. وتحقق لبريطانيا الانضمام في وقت متأخر في عام 1973. وبعد عامين فقط، تم طرح فكرة الانضمام علي استفتاء عام انتهي بالإبقاء علي عضوية بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي.