قبل سبع وستين سنة كنا هناك ولا تزال أرواحنا تذكر كل ذرات التراب وقطرات السحاب واشعة الشمس وجمال القمر وعشق النجوم وندي الصباح واحلام العصافير وتغريد الحساسين وكروم العنب ورحيق التين وعسل النحل وازاهير البرتقال وحبات القمح وسنابل الشعير واشجار الزيتون وبياض اللوز مكسوا بربيعه.. كنا هناك ولا زلنا هناك بأرواحنا، رأينا كل ذلك بأرواحنا وهي بعد لم تخرج الي عالم الدنيا، أما زلت تذكرين ايتها الارواح؟ نعم ما زلت اذكر جيدا يا سادتي، اذكر احلامي وأرقامي وأعلامي واذكر ذكرياتي واذكر تاريخي واذكر مستقبلي واذكر كل حياتي الممتدة جهدا وجهادا وجدا واجتهادا وعزا واعتزازا ونورا وانوارا، اذكر كل ما يذكرون وكل ما لا يذكرون، اذكر سيدي رسول الله صلوات الله عليه وهو يهبط من مكة الي قدسنا، اذكر سيدي ابن الخطاب امير الامة يمشي حافيا بثوب به سبع عشرة رقعة يدخل الاقصي فاتحا ذاكرا شاكرا راكعا ساجدا باكيا دامعا لامعا، واذكر سيدي صلاح الدين وهو يقود الجحافل ويطهر الارض من ادرانها، اذكر مرتفعاتها ومنخفضاتها وجبالها وسهولها ووديانها وانهارها وبحرها وبرها، اذكر الخيل والليل والبيداء والجمال والبغال والحمير لتركبوها وزينة، واذكر العباءة والحطة والطاحونة والمنقل والبكرج والقهوة والفناجين تدور بين الاكارم ابناء الاكارم أبا عن جد، اذكر النار والغار والثوم والبصل والليمون وعيون الشاطئ ترمقني رائحا وغاديا ما بين حيفا ويافا وغزة والخليل واللد والرملة وبيروت وغزة وحلب وبانياس ودمشق واللاذقية وطرابلس والطائف وبغداد ومكة واشرف المدائن يسكنها اشرف الخلائق. حبك فلسطين يسري في عمق ارواحنا والا فما سر ان يضحي الكل بروحه من اجل روحك، يأيتها الروح انت ما زلت انت ولن نقول لك: ارجعي الي أرضك، فأنت هناك ومن سيرجع اليك هو جسد من تراب تسكنينه هنا، وقلبك هناك في رحاب المسري يجول في كل انحائه وارجائه واركانه وطرقاته واشجاره وأزقته التي ما فتئت تقاوم العدا علي مدار آلاف من السنين دون ان يثنيها ثان. وارواحنا اليوم تغرس رحيق الحب الابدي في قلب الارض عشقا وهياما وصدقا وصدي، لينمو الرحيق ويسمو دما للشهادة، فيروي الارض والقمر والنجوم والزيت والزيتون والزعتر، لنبقي علي موعد قد سجلناه في مدارسنا، في الصفحة الاولي من كل كتبنا ودفاترنا واقلامنا ومحابرنا واوراقنا، وفي الصفحة الاولي من غراس الذاكرة وغراس التاريخ وغراس الجغرافيا التي تسافر فينا وتدور في دمنا في اوردتنا في شراييننا في اعماقنا، التي نعيها وتلكم التي لا نعيها، لتحيا ضمن منظومة اللارادة المتجذرة فينا، كالجبال ارساها فكانت فينا اوتادا، لا يدركها الا من عاش الهجرة والنكبة والنكسة والانتفاضتين وحروبا كان آخرها عصفا مأكولا يلقنهم اعتي الدروس بلا منافس بل اقساها وان غدا لناظره قد غدا اكثر اقترابا.