الشاعر عبد السلام العطاري ل "محيط": الوطن ليس قصيدة .. ولا أجد مكانا يحملني لظله غير فلسطين
محيط - شيرين صبحي ما زال الشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري يمضي كعابر سبيل، يدوس بقدمه كي ينزف نايه الحجري ليبقى على النشيد.. عندما فكر ذات يوم بالاستقرار في بلد مجاور، نادته تلال الزعتر وشجرة التوت في بيته الريفي، فأيقن أنه لا يمكن أن يجد المكان الذي يحمله إلى ظله غير فلسطين. إلى أرض الزيتون نرتحل وبرام الله نحط الرحال وبأجنحة الحلم نطير لنلتقي بشاعرنا الذي لازال يبحث عن روح رفاقه ووجه حبيبته ويبكي على تراب وطنه النازف، لنرى معه الحياة في ظل احتلال طال أمده، فنسمع صخب مجنزرات الاحتلال، ونشاهد سكون الشمس وهي تغمض عينيها مرسلة السلام إلى مهد الرسالات. محيط: في ظل نكبة فلسطين وتعرضك للاعتقال أكثر من مرة ، ألم تفكر في هجرة أرض الأجداد مثل الكثيرين ؟ العطاري: بالتأكيد لا ... والجواب ليس عاطفيا أو استعراضا ثوريا، وإنما هذه الحقيقة التي تتكاثر بي وتكبر معي كل يوم. ذات مرة فكرت بالاستقرار في بلد مجاور، ولكن عندما بدأت أفكر بتلال الزعتر وبالريف الأخّاذ و بشجرة التوت في بيتنا الريفي والتي يقترب عمرها من المئة عام، وكذلك بالأصدقاء الذين يمرون عليها عصر كل يوم، أيقنت انه لا يمكن لي أن أجد المكان الذي يحملني إلى ظله غير هذا المكان، فهذا وطننا وهذا قدرنا ولا بد أن ينسجم ما نقول ونكتب مع ما نحن عليه؛ الوطن ليس أغنية وقصيدة ولوحة فنية فحسب، فالوطن هو حياة وهو الحياة. محيط: ترى أن الشعر لم يعد مؤثرا في المتلقي العربي، فهل أصبح خارج الحاجات الإنسانية؟ سعيد: ما زلت أقول أن القصيدة العربية في خطر داهم وفي ظلام دامس إذا ما بقيت على حالها خارجة عن مضامينها الفعلية والمتمثلة بالاسقاطات التي باتت عليها من حيث تغريبها وبعدها عن همّ وقضايا الناس وحكايتهم اليومية لأننا ما زلنا على قمة أُحد الثقافة وما زلنا نقاوم احتلالات تجتاح الأرض والحجر والبشر والفكر والوعي وخاصة في ظل مرحلة عصر الثورة الرقمية التي تجتاحنا دون أن نعي كيف نواجهها ونحن نسعّر عقولنا للتّلقي دونما حساب. القصيدة كانت تحرك أمة، وتسقط دولة، وتثير عواصف المجتمع، وكان الشاعر هو ضمير الأمة والناس والحكّاء الدائم لمعانتهم وأفراحهم أيضاً، ولكن اليوم نحن بحاجة إلى استرجاع لهذا الدور ولا يكفي أن نعد الحضور والكمّ بقدر ما نريد أن نعي تأثير المقولة في هذا الحضور. المكان ملهمي ديوان دوثان محيط: في ديوانك "دوثان" اتخذت من المكان بطلا ، فإلى أي درجة يمكن أن يؤثر المكان على الكتابة الشعريَّة لديك؟ العطاري: المكان هو الملهم الحقيقي ولا يمكن أن أتجاوزه شخصياً لأنه الناس والحجارة، ولأنه اليومي الذي ننام ونصحو عليه، وخاصة في حكايتنا نحن؛ حكاية المكان والجدل فيه وعليه وعلى الحق التاريخي الذي يحاول النقيض محوه وسلبه كل يوم سواء بالمسميات أو بتزوير التاريخ والاتكاء على الرويات الخاصة به التي يحيكها ويصنعها وفق أجندته ورغباته الاحلالية والاحتلالية. لذلك فالمكان وما عليه وما في جوفه وقلبه من حكايات يؤثر على الكتابة ونحن بحاجة ماسة إلى إعادة كتابة الحكاية الفلسطينية في ظل التقهقر الحاصل على شكل ومضمون الانتاجات الأدبية التي تُصدّر كل يوم، وأشعر أنها باتت تغفل الرواية التي نريد، الرواية الحقيقة التي نريد. محيط: "ما الحزن بذكرى تمضي".. فهل يراقص الشاعر الجراح لتنبض بها قصائده؟ شجن وحزن يبكيان، فالحمقى وحدهم من يرون الكوميديا بلا دموع لأنها من صميم التراجيديا كما يقول الشاعر "بول فاليري"، وأنا أجزم هذا القول ونعرف أنه يبكينا، ولعلني أذكر مناسبة تلك المقولة التي قلتها " متى نحتفل بزوال الذكرى" في سياق ما ذكرته بإحدى مناسبات النكبة الفلسطينية في أحد أعوامها، ما يحدث هو الاحتفاء بصخب أصبح خارج سياق مفهوم النكبة، لذلك كون الشاعر الحقيقي هو جزء من الواقع اليومي المعاش ومن واقع هلاكه وحزنه وفرحه وسعادته لابد أن يتأثر بما يحدث وأعتقد أن الشاعر الحقيقي هو الأكثر ألما بجراح شعبه وهمه اليومي. محيط: تصف نفسك دوما بأنك عابر سبيل.. فمتى وأين ينوي عبد السلام العطاري أن يحط الرحال؟ وأين يجد مدينته التي تنام على هزج القصيدة؟ المدينة في رحلتي تمشي كظلي وتقترب من لهاثي وأحس أنفاسها تتكاثر بي، وحين أغمض كي أراها أجدها قصية بعيدة، هناك طرقات تمتلئ بالحواجز وبالقهر والإذلال اليومي، يفتشون في عقولنا وقلوبنا عن وطن المدينة وعن مدينة الوطن، فها أنا عابر السبيل ما زلت أمضي وأمضي على أشواق قلبها أدوس بقدمي كي ينزف نايي الحجري لأبقى على النشيد ويعلو بي وأرتقي معه إلى سدة الحياة.. كما ذكرته في قصيدتي "يشبه رغيف التعب" من ديوان (دوثان): - " كُنْتُ على سَفَرٍ مَع رَكْبِ أحلامي كانَ سَفَرًا لا جهةً أَبحَثُ عَنْ وَطَنٍ في أُغْنِيةِ النَّسغِ المُتَصاعدِ بَينَ طُرقاتٍ كانتْ صَيحَةُ الذّئابِ، عَنْ روحِ رِفاقي الشارِدَةِ بَينَ التِلالِ عَنْ وَجهِ حَبيبَتي بَينَ أزهارِ الأُقحُوانِ" . - " كُنتُ أَبْحَثُ عَمَّنْ سَرَقَ وَجهَ طُفولتي وكُراسَةَ أَحْلامي،... عَنْ وَجهِ أُمي بَين دفاترِ الحنينِ، عَنْ شَيخوخَةِ أبي، عَنْ أُغنِيةٍ تَرَكْتُها طِفْلاً في مَلْعَبِ حارتِنا الصّغيرة.
- " يا وَطَني النازِفُ مِنْ جُرْحي نايًا حجريًّا ومِنَ الطَّيرِ حتى آخرِ الشّهَداءِ أَبْحَثُ عَنّي فيكَ، أَبْحَثُ عَنْ وَجْهي في الطين المُتَحَرِّكِ،... ما عُدتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصنَعَ مِنْ قَمْحِ مُروجِنا رَغيفَ خُبزٍ وَكَعْكَةَ عيدٍ... يفرحُ بِها طفلي، ما عُدتُ أَقدِرُ أَنْ أرسمَ سُنْبُلَةً على جُدْرانِ قَرْيَتِنا، ما عُدتُ أُغني أُغْنِيةَ الأيائلِ وأَدُقّ النَقْشَ على كاحلِ الفَجرِ... أَيُّ خَوفٍ يُلاحِقُني مِنكَ.. مِن سُؤالٍ شارِدٍ يُطارِدُني.. كَسلاحِ جُنْديٍّ بَغيضٍ بَينَ عُشبِ المساءِ يَجْعَلُ مِنْ قَلْبِي مَحَطَّ بُكاءٍ للثَّكالى؟! طائر الفينيق رمضان فى المسجد الاقصى محيط: ونحن في شهر رمضان المبارك.. صف لنا عادات الفلسطينيين فيه وكيف يقضونه تحت القصف والحصار؟ الفلسطينيون شعب الجبارين، شعب العماليق الذين ورثوا أرض كنعان وعوج بن عناق لهم جلد على الحياة وفن البقاء، وهم طائر الفينيق الأسطوري الذي يبعث كلما نزف روحه تعود وتقوى أكثر من سابقتها، طقوسنا لا تختلف عن طقوس الأقطار العربية من يدخل فلسطين يشعر أن هناك شهر مميز بكل ما فيه من روحانيات وقدسية وهالة دينية جميلة تسحر كل من يشهد هذا الشهر الجميل، و قد يبدو للرائي أنَّ الحياة هنا صعبة وأن اليومي هنا على غير اليومي في أي قطر عربي آخر وهذا جزء من الحقيقة التي تُرى بالعين المُطلة على فضائياتنا العامرة بالخبر كل لحظة يطير بها من هنا إلى عواصم الكون. حملتنا الأيام على أن نعتاد الحياة هنا في ظل احتلال طال أمده وما عدنا نرى مداه، ولكن ليس بمعنى الرضوخ والاستسلام، رمضان كما أقول دائما صديقي الجميل منذ طفولتي، ومنذ أنا وهو صديقي الأجمل، رمضان الذي أحب ..عشته بهدوء وعشته بصخب وضجيج مجنزرات الاحتلال وهي تهبط طرقاتنا غير مرة ليرتج صحن الإفطار ويخفت صوت المؤذن قليلا، إلاّ أن هناك نغمة ربانية تطغى وتعلو على هديرها وعلى وقع خطى الغرباء الذين يعيثون فساداً في الأرض صباح مساء، وعلى الرغم من منغصاته اليومية وبعثرتنا إلى أجزاء حول صحن الشهوة الجميل إلاّ أنَّ هناك وقع خاص لسكون الشمس التي تغمض كي نُشرق بهجة بلقمة نبتسم لها ونضحك كما الأطفال الذين يسترقون السمع ليسارعوا بعدها إلى أشيائهم الصغيرة الجميلة التي عاركوها طيلة النهار وقهرتهم إلى أن صاغ الطفل مقولته وانقضَّ على سطر اللقمة الأول ليختلط ما بين إفطار الفضائيات ونغمة القادم من محكيات لينفذوا إلى كل ذلك ويختلطوا ما بين فرحة دراما الذاكرة وبين ذكريات الطفولة والصوت . محيط: هل تتغير عاداتك وطقوسك بهذا الشهر ؟ سألني أحد الأصدقاء الشعراء، كيف أكون في رمضان؟، قلت: له صوفي ناسك زاهد أتخلص من التوتر والقلق والغضب. هذا فعلاً على غير البعض بحجة الجوع والعطش والسجائر،،، بصدق لا أفكر بهذا، ولي طقوس في العبادة وخاصة صلاة التراويح التي هي بالفعل تريح النفس والجسد التي تقربنا إلى لله وراحة للجسد والنفس، ولذلك تتغير كل طقوسي اليومية في هذا الشهر الفضيل الذي يسبغ علينا بسكينة وطمأنينة رائعة. محيط: على مائدتك من يكون أول المدعوين؟ ومن الذي تتمنى أن تدعوه من: الشعراء/ الكتاب/ الفنانين؟ أول ما أدعى أنا... على مائدة والدي في بلدتي التي ولدت بها (عرّابة) وهذا أجمل الأيام يكون بالنسبة لي ولعائلتي، فما بين عرّابة ورام الله التي أسكن؛ مسافة طويلة زمنيا بفعل الحواجز الاحتلالية، وقصيرة نوعا ما بعدد الكليومترات ومع ذلك لا يعني لي هذا البعد إلا المزيد من الإصرار على التواصل. أما بشأن أمنيتي بدعوة من؟؟ لا أجيد الانتقاء بصراحة، ولكن لي رغبة أن تكون المسافات بين مدننا تتيح لي أن أجد على مائدتي كلهم دون استثناء فأنا على مسافة حبٍ واحدة من جميع الأصدقاء. محيط: وأخيرا ما هي الأماكن التي تحب أن ترتادها في رمضان؟ العطاري: قليل الخروج إلا للمناسبات الخاصة بحكم طبيعة الوقت، ولكن في رمضان أجدها فرصة للتواصل مع الأقارب والأصدقاء بغض النظر عن المكان ما يهمني هو اللقاء بهم. ويرأس عبد السلام العطاري إتحاد كتاب الإنترنت العرب فرع فلسطين، وهو شاعر وكاتب من مواليد بلدة عرّابة محافظة جنين عام 1965 ، ويدرك أن من يرغب أن يعيش الحياة العامة عليه أن ينفي الزمان والمكان ولا يتطلع إلى ثمن أو جائزة.