وكيل تعليم القاهرة يتفقد مدارس حدائق القبة    محمد أبو السعود: 53% من محفظة البنك الزراعي موجهة للتمويل المستدام    رئيسة المفوضية الأوروبية: نسعى لتوقيع اتفاق شراكة شاملة مع مصر    "الوطني الفلسطيني": التحول في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية يمثل فرصة تاريخية يمكن البناء عليها    كشف قائمة المرشحين لجوائز الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    وزير الشباب يقر تعديل ضوابط النظام الأساسي ل 71 نادي رياضي    رئيس جامعة بنها يطمئن على 9 طلاب بحادث طريق أبو سمبل الصحراوي    قان أورغانجي أوغلو: أتطلع لفرص عمل مقبلة مع المبدعين العرب    مصر تبدأ العمل بالتوقيت الشتوي نهاية أكتوبر.. الساعة هتتأخر 60 دقيقة    «خدمة المجتمع» بجامعة القناة يستعرض إنجازاته خلال عام كامل    بعد تصاعد جرائم القتل.. شيخ الأزهر يوجه رسالة حاسمة إلى المجتمع    مقتل شخصين وإصابة آخر بانفجار عبوة ناسفة في سيارة بالعزيزية شرقي حلب    وفد لجنة السياسة الخارجية بالبرلمان الدنماركي يتفقد معبر رفح    مدبولي: تيسيرات جديدة للمتقدمين للوظائف من المحافظات البعيدة    محافظ الوادي الجديد يتفقد بدء أعمال الإنشاءات بمركز إنتاج الحرير الطبيعي    بتكلفة 6 ملايين جنيه محافظ المنيا يفتتح مركز شباب بني خلف بمغاغة    تفاصيل الاجتماع الفني لمباراة مصر وغانا في تصفيات كأس العالم للسيدات    نائبة وزيرة التضامن تشهد إعلان 42 وحدة خالية من الأمية ببنى سويف    ضبط سائق أنزل الركاب لرفضهم دفع "أجرة زيادة" بالبحيرة    محافظ أسوان يطمئن على طلاب جامعة بنها المصابين فى حادث طريق أبو سمبل    مرور القاهرة يعلن إغلاق كوبري الأزهر السفلي لإجراء أعمال الصيانة    ننشر منطوق حكم كروان مشاكل بسب وقذف ريهام سعيد    "مكافحة انتشار المخدرات" فى ندوة بطب بيطري أسيوط    شريف فتحي: مصر لديها كافة المقومات لتصبح الوجهة السياحية الأولى في العالم    رئيس الوزراء: المتحف المصري الكبير هدية مصر للعالم كله    تكريم خالد جلال بختام ملتقى شباب المخرجين بمسرح السامر.. الليلة    9 مستشفيات ضمن خطة التأمين الطبي لفعاليات تعامد الشمس بمختلف مراكز محافظة أسوان    أمير قطر: العلاقات التاريخية مع تركيا تمضي بثبات نحو آفاق واعدة    وزير التعليم العالي يؤكد ضرورة توجيه البحث العلمي لخدمة التنمية الاقتصادية وخلق فرص عمل للشباب    مجلس كنائس مصر: مؤتمر الكهنة والرعاة جسد رسالة الكنسية في خدمة الإنسان والمجتمع    مصر تدعو لتمثيل عادل للدول الإفريقية بالمؤسسات الدولية والبنوك الإنمائية    حبس المتهم بإنشاء كيان تعليمي وهمي للنصب على المواطنين بمدينة نصر    لتوفير 1500 فرصة عمل.. 12 شركة في الملتقى التوظيفي الأول بجامعة حلوان (تفاصيل)    الخارجية الروسية: تحضيرات القمة بين بوتين وترامب مستمرة    وزير الخارجية الإسرائيلي: لا يوجد لإسرائيل صديق أعظم من الولايات المتحدة وممتنّون لإدارة ترامب على دعمها الثابت لإسرائيل    اعتماد تنظيم الكونغرس الأول للإعلام الرياضي في ديسمبر 2026    انطلاق المؤتمر السنوي الثالث لمركز الكبد والجهاز الهضمي بدماص بالمنصورة.. غدًا    مرض الجدري المائي.. الأعراض وطرق الوقاية    الجبلاية توافق على رحيل أسامه نبيه وتبحث عن مدير فني للمنتخب الأولمبي    قائمة ريال مدريد - غياب 5 مدافعين ضد يوفنتوس.. وميندي يعود لأول مرة منذ 6 أشهر    لدعم الطالبات نفسيا، الهلال الأحمر يطلق حملة Red Week بجامعة الوادي الجديد    أفضل 5 وجبات خفيفة صحية لا ترفع السكر في الدم    فئات ممنوعة من أداء مناسك الحج    الرقابة المالية تمد وقف تلقي طلبات التأسيس لنشاطي التمويل الاستهلاكي ومتناهي الصغر بالطرق التقليدية لمدة عام    النجم التركي كان أورجانجي أوغلو: أتطلع لزيارة الجمهور في منازلهم بمصر    محمد عبده يقبل يد المايسترو هاني فرحات : "ونكيد العوازل بقي "    بيحبوا يكسروا الروتين.. 4 أبراج لا تخشى المخاطرة وتحب انتهاز الفرص    «مصر» ضمن المرشحين لجائزة أفضل منتخب إفريقي في 2025    القنوات الناقلة لمباراة بايرن ميونخ وكلوب بروج في دوري أبطال أوروبا    البترول: مصر تُصدر 150 ألف متر مكعب من الغاز المسال إلى تركيا لصالح توتال إنيرجيز    الأقصر تتحرك لدعم موسم سياحي استثنائي.. لقاء موسع بمشاركة خبراء ومختصين    نائب وزير الصحة يتفقد جاهزية الخدمات الطبية والطوارئ بميناء رفح البري    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 22-10-2025 في محافظة الأقصر    مفتي الجمهورية: الله تولى بنفسه منصب الإفتاء وجعله من وظائف النبوة    حكم القيام بإثبات الحضور للزميل الغائب عن العمل.. الإفتاء تجيب    حين يتأخر الجواب: لماذا لا يُستجاب الدعاء أحيانًا؟    سماء الفرج    موعد شهر رمضان المبارك 1447 هجريًا والأيام المتبقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلك النار التي تتمدد من العراق..
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 16 - 06 - 2014

عرفتُ العراق، وعاشرته وتنفسته، واختنقت فيه، عرفت ناسه وأحجاره، وتخللت أشعاره، وتخللني موسيقاه بشجنها، بل بحزنها المقيم أبدا.. وكما صافحت فيه وجوها معجونة بالعروبة والثقافة والفنون، صافحت وجوها كشفرة الموسي، تجرحك منذ اللقاء الأول، شربت فوق تلال شماله من حليب البلابل، وأكلت في سجن المخابرات في بغداده من شجر الزقوم، تجوّلت بين ناسه الطيبين في ساحاته المزدحمة، وهربت حول صحاريه الموحشة، بعد معلومات بترتيبات لاغتيالي بحادث في قلب بغداد، فهذا هو عراق حدّي في مشاعره ومواقفه، يحب حتي حافة الكراهية، ويكره حتي حافة الحب، يحملك فوق كتفيه، أو يدوسك تحت نعاله، إما تكون معه كما يريد، وإما أن تكون ضده، كما يريد أيضا، عراقُ لا مساحة عنده بين الكلمة والطلقة، وبين الطلقة والصدي، وبين عنقود مجدول من الزهور، ومشنقة مجدولة من الليف.
لكنه في كل الأحوال عراق مقاوم، وعراق مقاتل، وعراق عروبي، في سجل تاريخه صفحات مطولة مكتوبة بدم سخي ساخن، فالكرامة عنده قبل اللقمة، والحرية قبل الخبز، والاستقلال مقدم علي السلم.
'1'
تلك لحظة كاشفة للإعلام المصري، وعليه أن يري وجهه الحقيقي في مراياها، ليعرف بنفسه، مقدار فقره، وحجم تبعيته، وسطحية فكره، فالعراق ليس جزيرة مطمورة وراء البحار والمحيطات، سمع عنها بغتة، وسمع عن أوضاعها وأوجاعها فجأة، فلم يجد إلا أن يأخذ الآخرون شيئا مما يدور علي أرضها، وأن يتبع طائعا وكالات الأنباء الغريبة فيما تبثه من تضليل وإيهام، فينقل عنها دون مراجعة، ويروج لها دون حساب، ولك أن تنصت إلي تلك الأفواه الكبيرة التي تحتل صدر الشاشات، لتسمع منها ما ليس جهلا بسيطا، ولكنه جهل مركّب، وهو صنف من الجهل متفاخر بما لديه، معتز بما لديه، يهز أعطافه طربا، بما يظن أنه مالكه من غاية الفهم والعلم والمعرفة.
ولست أعرف في الحقيقة عن أي دور قومي مصري نتحدث، إذا كان إعلامنا الرسمي والخاص، قد بدا فيما يقوله، وكأنه لا يعرف عن العروبة إلا خمسة حروف، ولا يعرف عن العرب إلا أنهم يتكلمون العربية، وينطق أسماء عواصم ومدن عربية برطانة أجنبية رقيقة، ولِمَ لا؟! إذا كانت مذيعة ملء السمع والبصر تقرأ اسم 'نَيْنَوي' 'نِينُويْ'، وإذا كان آخر يقرأ اسم 'المُحمَرة' 'المِحمرة' وكأنه يتكلم عن قطعة من البطاطس، خرجت لتوها من زيت يغلي.
ولا تثريب عليهم، لأن مضامين الأشياء قد غابت وضاعت وأصابها البوار والتلف، ولم نعد نصافح منها إلا شكلها الخارجي، الذي تغطيه أصباغ الألوان، ومساحيق التجميل.
'2'
لك أن تصدق - أولا - أن تنظيما إرهابيا اسمه 'داعش' تؤكد كل تقارير المعلومات الموثقة أن عدد أفراده يتراوح بين 1500 إلي 2000 شخص، قد استطاع بين عشية وضحاها أن يدفع سكينا ساخنا في جسم العراق، فيقتطع منه لنفسه ما يتجاوز ثلث مساحته، وكأنه مجرد مكعّب من الزبد في يوم حار.
ولك أن تصدق - ثانيا - أن هذا التنظيم، بهذا الحجم المدجج بالأسلحة الصغيرة، فليس لديه مدفعيات متوسطة أو ثقيلة أو مدرعات، أو بطاريات صواريخ أو طائرات، استطاع أن يُخرج من المحافظة الثانية في الشمال والثالثة علي مستوي العراق كله، تشكيلات عسكرية قتالية كبري، فرّت مذعورة من ضغط قوة نيرانه، فتركت أسلحتها الثقيلة ومدرعاتها، وطائراتها العمودية، واستنقذت نفسها باستبدال ملابسها العسكرية، بملابس مدنية وولّت الأدبار.
لقد كان في محافظة الأنبار تواجد عسكري مكثف لتشكيلات عسكرية كبيرة، ضمن ستة تشكيلات ميدانية، بينها اثنان علي مستوي فرقة، وهما الفرقة الثانية والفرقة الثالثة ضمن تشكيلات الجيش العراقي، إضافة إلي وحدات قتالية خاصة، وأفواج مدفعية، وكتائب أمنية، وإذا كانت الفرقة الثانية قد دخلت في مواجهات تعرّضيّة، فإن الفرقة الثالثة لم تدخل في دائرة أي مواجهات عسكرية، لكن الجميع تشارك في موقف واحد هو الهروب غير المنظم من ميدان المواجهة، وكأن اسم 'داعش' وحده، يزيغ الأبصار، ويلقي الرعب في القلوب.!
ولك أن تصدق - ثالثا - أن الفرقة 12 المدرعة والتي كانت محافظة كركوك، والمواقع المحيطة بها عن أطرافها الجنوبية والغربية، تشكل مسرح عملياتها، قد سلمت دباباتها وأسلحتها لقوات البشمركة التابعة للشمال الكردي طائعة، وغادرت كركوك في انسحاب غير منظم، وتركتها مختارة تحت رعاية قوات البشمركة، التي أصبحت تحت سيطرتها منفردة للمرة الأولي، رغم أن كركوك كانت قد لجأت قبل اكثر من عام إلي حفر خندق حول المدينة بطول 58كم وبعمق 3 أمتار وعرض 2 متر، وبتكلفة مقدارها 2.8 مليون دولار، للحيلولة دون اختراقها من قبل عناصر تستهدف المنشآت العامة، وأماكن تجمعات المواطنين.
ولك أن تصدق - رابعا - أن هذه المجموعات الإرهابية من 'داعش' التي اخترقت قلب الموصل، توجهت مباشرة إلي القنصلية التركية واعتقلت 80 تركيا بينهم 31 من سائقي الشاحنات، و 41 من موظفي القنصلية، بالرغم من أن أكثر من 30% من قوات 'داعش' التي اخترقت حدود سوريا، وأغرقت الشمال السوري بالدم قد مرت عبر تركيا، فقد حملتها جسور تركية إلي هناك، ووضعت في يدها الأسلحة أياد تركية، وأمدتها بالمعلومات، ودفعتها إلي حيث عليها أن تقاتل الجيش السوري، أصابع تركية.!
ولك أن تصدق - خامسا - أن هذه المجموعة الإرهابية من 'داعش' هي التي توجهت بعد ذلك نحو محافظة سامراء 'علي بعد 110 كم شمالي بغداد' وخاضت اشتباكات عنيفة عند مدخلها الشمالي، واخترقت 'تكريت'، ووصلت إلي مركز محافظة صلاح الدين، واستولت علي قواعد عسكرية كبيرة، وأن الولايات المتحدة تحسّبا من اقتراب 'داعش' اضطرت إلي إخلاء مئات من جنودها، من أكبر قاعدة جوية خاصة بها في 'بلد' بمحافظة صلاح الدين، وأن هذه المجموعة من 'داعش' استولت في القوت نفسه علي مدينة القائم والكبيسة، ودخلت في اشتباكات ضارية، في منطقة القادسية بمحافظة الرمادي، وأنها استولت علي 12 قرية شمال شرق بعقوبة، وسيطرت علي المقدادية، والسعدية، وجلولاء في 'خانقين' بمحافظة ديالي.. الخ.. الخ.. !
ولك أن تصدق - سادسا - أن 'المالكي' تحت تأثير الرعب الزاحف من أيدي ألف إرهابي، قد اضطر إلي أمور لا تبدو طبيعية، فلديه جيش مليونيّ، لكنه لجأ إلي أمريكا لتستخدم طائراتها القاذفة في تصفيتهم، لكنها امتنعت، ورغم أن نصف هؤلاء في الأقل سيقتلون غالبا في الطريق إلي بغداد، فأقرب مجموعة لهم في 'العظيم' علي بعد 57 كم من العاصمة، فقد لجأ إلي تعرية الحدود العراقية تماما، الفرق والألوية العسكرية، بل استعان بالفرقة 24 ودفعها من البصرة إلي حزام بغداد لتشديد تأمين العاصمة، بل إنه لجأ فوق ذلك إلي إغلاق مداخلها وخارجها ليلا، ورغم ذلك كله فقد دعي إلي تشكيل جيش مواز من المتطوعين المسلحين للقتال إلي جانبه.
ولك بالفعل أن تصدق - سابعا - إذا كان ما نشاهده، أو ما يعرض علينا شريط سينمائي أنتجته هوليوود، تمجيدا في القوة الأسطورية الامريكية، لا تمجيدا في الالف مقاتل من 'داعش' إلا إذا كان الفيلم ذاته عليه أن يخلق وحشا جديدا، أكثر إرعابا من 'فرانكنشتاين' وأكثر قدرة علي القتل السريع، وعلي إبادة الجيوش من كل عباقرة صناعة الوهم في السينما الأمريكية.
ثم إن هذا التنظيم الإرهابي، إضافة إلي ذلك، أصبح الأغني في العالم، فقد استولي علي سبائك ذهبية و 420 مليون دولار من بنوك الموصل، وبذلك فإنه كما تطوع بالقول أكثر من أي سياسي وباحث أصبح يشكل الخطر الداهم علي الأمن القومي العربي، وعلي الأمة العربية كلها، ولذلك علي دول الخليج العربي - إذا - باعتبارها الأقرب إلي دائرة النار، أن تقوم في خوف، وتنام في خوف، وأن تدرأ الخطر عنها، بتقديم مساعدات سخية للمالكي، كي يقضي علي عاصفة الإرهاب، لأن حديث رئيس مصر عن حماية أمنها، يدخل في باب النوايا الحسنة، لا في باب الممكن والمتاح.
ومع ذلك كله، فإن سيناريو الرعب المصنوع ليس هو السيناريو الأصلي، وإنما هو سيناريو فرعي، يشكل استثمارا غربيا وإقليميا للسيناريو الواقعي، الذي تجري مشاهده الطبيعية فوق الأرض.
'3'
لا تخرجوا 'داعش' من المعادلة، ولكن أخرجوها من رأس المعادلة، إذا أردتم أن تروا ما يحدث في العراق، رؤية واقعية، فلا سبيل إلي إنكار أن الأمريكيين باتوا يرونه كذلك، أن الرئيس الأمريكي لم يستخدم وصف الإرهابيين مرة واحدة، وإنما كرر استخدام وصف المسلحين، وهو قد وضع الأزمة في جانب منها علي رأس الجيش العراقي، الذي وصفه بأنه يفتقد إلي العزيمة والالتزام، وفي جانب منها علي أكتاف الأمن العراقي الذي قال إن أمريكا لن تقوم بمهامه نيابة عنه، لكنه وضع ثقل الأزمة كلها علي رأس قادة العراق، أي الحكومة العراقية، لأنهم - علي حد تعبيره - فشلوا في تجاوز خلافاتهم الطائفية، وذلك كله صحيح دون شك، لكن أوباما استخدمه كماء جارٍ لغسل يد الولايات المتحدة تماما من عوامل صناعته وخلق نتائجه، فأمريكا هي التي زرعت التناقضات في العراق، وهي التي صممت وبنت هيكل نظامه السياسي، وهي التي ساهمت بكل التضحيات التي يتكلم عنها الرئيس الأمريكي في إفقاره واستلابه وشحنه بالفتن، وهي في المحصلة النهائية التي غيرت بيئته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلي بيئة انقلابية قابلة للتفجير والانفجار، فالنخبة التي تحكم العراق جاءت جميعها محمولة فوق أسطح الدبابات الأمريكية، وصعدت بقوة دفع أمريكية، لتملأ فراغات هيكل سلطة صممها الأمريكيون بعد أسابيع قليلة من الفتح الاستراتيجي لضرب العراق، وبعد تدمير الجيش العراقي، كمقدمة لتدمير الدولة العراقية، وعندما قفز الجيش الأمريكي خارج العراق لأسباب سياسية بحتة، كانت الإدارة الأمريكية مطمئنة تماما، إلي أن العراق سوف يظل يدور في فلك تناقضاته التي زرعتها، خاصة أنها تركت خلفها - حسب الوثائق الأمريكية - سبعين ألف عميل عراقي يعمل بالأجر لصالحها.
أسطورة 'داعش' إذن ليست صحيحة، وإن كانت موجودة كمفردة في صورة مكبرة، مملؤة بكتلة شعبية هائلة، غاضبة ومحتقنة، بعد أن انهارت أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد أن حاولت علي امتداد عام كامل أن تعبّر عن غضبها في انتفاضات سلمية، دفاعا عن مصالحها المستلبة، تحت ضغوط صنعتها سلطة مستبدة، أعادت تفصيل العراق كله علي مقاسها، باستخدام معاول الفساد والتمييز والطائفية، والقوة الأمنية القاهرة، أما الجيش العراقي الذي تتكلم عنه، فهو جيش آخر، استئصلت عقيدته القتالية، بأبعادها الوطنية والقومية، وغيرت قاعدة بنيته من ضريبة الدم، إلي عائد الأجر.
'4'
علينا أن نعترف كذلك، بأن حجم الأسئلة المعلقة في فضاء الإقليم، أكبر بكثير من الإجابات المؤكدة عليها، فنحن حتي في حدود ما يحدث في العراق، أمام ظاهرة كبيرة، بعض من مادتها طبيعي تماما، لكن بعضا آخر منها مصطنع وموجه وموظف، ولكن ليس علي غرار تلك الإجابات المتسرعة التي قدمها خبراء استراتيجيون، تارة بالقول إن النظام السوري هو صانعها لتخفيف الضغط عليه، وتارة بالقول المعكوس، إن خصوم النظام السوري هم صانعوها، لتجد المعارضة السورية مخزنا مفتوحا للأسلحة التي لم تعد تصل إلي يديها، فتلك الإجابات وأمثلتها، تحبس شلالا حقيقيا من النار، يهدد بتفاعلاته الإقليم كله، داخل صندوق مغلق.
لذلك فإن الحقائق التي يمكن قبضها باليد، لا ينبغي أن تغيب تحت دخان تهويمات ليس لها أرجل تمشي عليها، هناك - أولا - حقيقة أن ما يحدث في العراق أكبر بكثير، وأوضح بكثير، وأعمق بكثير، من أن تكون طاقة قوته وحركته واندفاعه، مجموعة يتيمة تضم ألف شخص، أيا كانت هويتهم، فنحن بصدد كتل كبيرة من البشر المستلبين غضبا، يعبرون بالحديد والنار، عن ظلم وتهميش وإبعاد، وهناك - ثانيا - ما ترتب علي أوضاع في بنية النظام، ومنظومة القوة فيه، أدت إلي أمرين محددين: انهيار غير مسبوق في منظومة الأمن، واختلالات جسيمة بعمق العراق في التوازن العسكري والاستراتيجي، وهناك - ثالثا - ما ترتب علي ذلك كله، من حدوث تغيرات كبيرة في موازين القوي، بين السلطة الحاكمة في العراق، وبين كتل هائلة من الشعب العراقي، خصما من قوة السلطة، وإضافة إلي رصيد الشعب، وهناك - رابعا - ما انتهت إليه الأوضاع القائمة في ضوء ذلك، داخل محافظات كبري في العراق أصبحت بالأمر الواقع في منظور المسيطرين عليها 'مناطق محررة' وهي مناطق يصعب استعادتها دون أنهار من الدماء، وهناك - خامسا - عناصر متصادمة يغلب عليها جميعها طابع العنف والتصعيد، في سلسلة تفاعلات مفتوحة غير محسوبة وغير محددة التوجه، وإن كانت سريعة الإيقاع، وهو الأمر الأكثر مدعاة لتأجيل المواقف ثم لتحديدها مستقبلا، علي المستوي الإقليمي والدولي.
لماذا امتنعت الولايات المتحدة عن التدخل عسكريا حتي الآن؟ لأنها تدرك هذه الحقائق جيدا، ومتي ستتدخل او تسمح لغيرها بالتدخل؟ إذا وصل الخلل في موازين القوي إلي درجة تمثل تهديدا علي بقاء النظام السياسي الذي فرضته، سواء بالنخبة القائمة أو بغيرها، أما الحكومة فليس أمامها غير خيارين: إما الاعتراف عمليا بموازين القوي الجديدة سياسيا، وإما الاستمرار في تصحيحها مجددا لصالحها باستخدام القوة، والخيار الثاني هو الأقرب احتمالا، بحكم تركيبتها وجنوح رئيس وزرائها، وفتوي السيد السيستاني، بدعوته إلي الجهاد الكفاحي دعما للمالكي، وهذا هو مكمن الخطر الحقيقي، لأن ذلك سيعني من بين ما يعنيه، السقوط عراقيا في براثن حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، ، ولأن ذلك سيعني بالضرورة، أن تلال النار الحارقة ستكون قابلا لإيقاظ بؤر جاهزة للاشتعال في أنحاء واسعة من الإقليم، يمكن ان تكون بذاتها حفرة مفتوحة لحرب إقليمية واسعة، ليس لأنه يري ' داعش ' أرادت ذلك، ولكن لأن إرادة دولية تري فيه تطبيقا جديدا لاستراتيجيتها، فقد فشلت في فرض الفوضي بالقلب، وأمامها فرصة لأن تنجح في الأطراف.
'5'
أما نحن فأخشي أن نظل أسري ما نحن فيه، فتبقي حكومة الوطن بعيدة عن عقله، ويبقي عقل الوطن، بعيدا عن حكومته.!
Email: [email protected]
Site : ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.