يعد الشيخ عبد الحليم محمود واحداً من أهم علماء الأزهر الشريف الذين كانوا لهم الأثرهم البالغ فيما قدموه من إرهاصات للتجديد والإصلاح في الأزهر، وهو وزيراً للأوقاف وشيخاً للأزهر في الفترة بين عامي 1973 و1978. ولد في 12 مايو 1910م، بعزبة أبو أحمد قرية السلام - مركز بلبيس – الشرقية التحق بالأزهر سنة 1923م حصل علي العالمية سنة 1932م ثم سافر إلي فرنسا علي نفقته الخاصة لإستكمال تعليمه العالي حيث حصل علي الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية سنة 1940م. عند عودته عمل مدرساً لعلم النفس بكلية اللغة العربية بكليات الأزهر ثم عميداً لكلية أصول الدين سنة 1964م وعضواً ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية ثم عين وكيلاً للأزهر سنة 1970م من ثم وزيراً للأوقاف وشئون الأزهر. وقد تولي المنصب في ظروف بالغة الحرج، وذلك بعد مرور قرابة 10 سنوات علي صدور قانون الأزهر سنة 1961م الذي توسع في التعليم المدني ومعاهده العليا، وألغي جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده في إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، وهو الأمر الذي أحدث صدام عنيف بين شيخ الأزهر ووزارة الأوقاف.ولكن الشيخ عبد الحليم محمود استطاع أن يحقق هذا النجاح الذي حققه في إدارة الأزهر، فيسترد للمشيخة مكانتها ومهابتها، ويتوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية علي نحو غير مسبوق، ويجعل للأزهر رأيا وبيانا في كل موقف وقضية. صدر قرار تعيينه شيخا للأزهر في 27 مارس 1973م، وما كاد الشيخ يمارس أعباء منصبه حتي بوغت بصدور قرار جديد من رئيس الجمهورية في 7 يوليو 1974م يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقي له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، وما كان من الشيخ إلا أن قدم استقالته لرئيس الجمهورية علي الفور، معتبرا أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية في مصر والعالم العربي والإسلامي. روجع في استقالته، وحاول الحكماء إثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر علي استقالته، وامتنع عن الذهاب إلي مكتبه، ورفض راتبه، وطلب تسوية معاشه، مما أحدث دويا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وتقدم أحد المحامين برفع دعوي حسبة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف، طالبا وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية. إزاء هذا الموقف الملتهب اضطر رئيس الجمهورية أنذاك محمد أنور السادات إلي معاودة النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلي نصابه، جاء فيه: شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر. تضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه في الأسبقية قبل الوزراء مباشرة، وانتهت الأزمة وعاد الشيخ إلي منصبه ليواصل جهاده بدأ إرهاصاته في الإصلاح والتجديد بعد توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية الذي حل محل جماعة كبار العلماء، فكون الجهاز الفني والإداري للمجمع من خيار رجال الأزهر، وجهزه بمكتبة علمية ضخمة ووفر الكفايات العلمية التي تتلاءم ورسالة المجمع العالمية، وفي عهده تم عقد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، وتوالي انعقاده بانتظام، كما أقنع المسئولين بتخصيص قطعة أرض فسيحة بمدينة نصر لتضم المجمع وأجهزته العلمية والإدارية، ثم عني بمكتبة الأزهر الكبري، ونجح في تخصيص قطعة أرض مجاورة للأزهر لتقام عليها. وأثناء توليه لوزارة الأوقاف عني بالمساجد عناية كبيرة، فأنشأ العديد منها، وضم عددا كبيرا من المساجد الأهلية، وجدد المساجد التاريخية الكبري مثل جامع عمرو بن العاص. تصدي لقانون الأحوال الشخصية الذي حاولت الدكتورة عائشة راتب إصداره دون الرجوع إلي الأزهر، وحرصت علي إقراره من مجلس الشعب علي وجه السرعة، وكان هذا القانون قد تضمن قيودا علي حقوق الزوج علي خلاف ما قررته الشريعة الإسلامية بحيث يقيَّد الطلاق، ويُمنَع تعدد الزوجات. فانتفض الشيخ فقال: 'لا قيودَ علي الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ علي التعدد إلا من ضمير المسلم ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ 'آل عمران: من الآية 101' وأصدر بيانا قويا حذر فيه من الخروج علي تعاليم الإسلام، وأرسله إلي جميع المسئولين وأعضاء مجلس الشعب وإلي الصحف، ولم ينتظر صدور القانون بل وقف في وجهه قبل أن يري النور، ورغم صدور تعليمات للصحف بمنع النشر، إلا أن الحكومة لم تجد مفراً عن العدول عن إصدار القانون كما كان له موقفه الشديد ضد قانون الخمر، حيث ندَّد به في كل مكان، وأيضًا موقفه الحاسم من الشيوعية والإلحاد. من أهم دعوات الشيخ دعوته إلي تطبيق الشريعة الإسلامية ويقول لهما: 'لقد آن الأوان لإرواء الأشواق الظامئة في القلوب إلي وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا يسرا وبخوفنا أمنا.. '. كون لجنة بمجمع البحوث الإسلامية لتقنين الشريعة الإسلامية في صيغة مواد قانونية تسهل استخراج الأحكام الفقهية علي غرار القوانين الوضعية، فأتمت اللجنة تقنين القانون المدني كله في كل مذهب من المذاهب الأربعة. أصدر الشيخ الجليل أكثر من 60 مؤلفا في التصوف والفلسفة، بعضها بالفرنسية، من أشهر كتبه: أوروبا والإسلام، والتوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، وأسرار العبادات في الإسلام، والتفكير الفلسفي في الإسلام، والقرآن والنبي، والمدرسة الشاذلية الحديثة. أنشأ هيئة كبري لإدارة أوقاف الوزارة والتي كان الإصلاح الزراعي منوط بإدارتها فقرر استردادها للوزارة لتدر خيراتها من جديد، وعمل علي استرداد الأوقاف التي عدت عليها يد الغصب أو النسيان، فاسترد المغتصب، وإصلح الخرب. رحل الشيخ عبد الحليم محمود عن عالمنا صبيحة يوم الثلاثاء الموافق '17 أكتوبر 1978م' تاركا ذكري طيبة ونموذجا لما يجب أن يكون عليه شيخ الأزهر.