في أول إطلالته أكد المهندس 'إبراهيم محلب'، رئيس مجلس الوزراء الجديد، أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة عمل بامتياز عنوانها: المواطن وتوفير العدالة الاجتماعية للمواطنين. وأن المرحلة المقبلة ستتميز بالأمانة والشفافية والعمل والوضوح والمراقبة والمحاسبة، لتحقيق أهداف ثورتي 25 يناير و30 يونية.. وما من شك أن أمام الحكومة الجديدة وفي أجندتها الكثير من القضايا التي علي جدول أعمالها سواء علي صعيد تحقيق النمو الاقتصادي المرغوب والتنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية المتوازنة وتأمين فرص عمل للأعداد الهائلة من العاطلين عن العمل وتحريك الركود الاقتصادي والاستفادة من الموارد المتاحة هذا من جانب، ومن جانب آخر ضرورة العمل علي تحسين القوة الشرائية من خلال ضبط الأسعار. إضافة إلي معالجة حالات الهدر والفساد علي اعتبار أن للفساد تكاليف اقتصادية واجتماعية مرتفعة جداً وينطوي علي مجموعة من المخاطر التي تعرقل عملية التنمية كما أنه يؤثر تأثيراً مباشراً علي الكفاءة والفعالية علي أداء الجهاز الإداري ويساهم في تكوين قيم سلبية كالاستهانة بالمصالح العامة وتبديد الموارد واتخاذ القرار الإداري وفقاً لعوامل شخصية تؤدي إلي تسرب الدخل من خزائن الدولة إلي جيوب خاصة واستخدامها خارج نطاق الأهداف التي رصدت من أجلها. فالذين يحملون أعباء الوزارات المختلفة، وأقول أعباء: لأنّ الحمل ثقيل، والفترة صعبة، والتحديات كثيرة، ومن يستلم منصباً عاماً تحت الظروف الوطنية الاقتصادية السائدة فهو مناضلٌ حقيقي. وهنا أقول: لا لزوم للتذكير بأن المواطن المصري لا تعنيه الأرقام، فماذا تفيد المواطن الأرقام.. وهو يلمس أسعار الخضر في ارتفاع، والحفرة أمام بيته في تزايد والكهرباء تنقطع باستمرار، والعشوائيات يتقاسمها مع الحيوانات.. هموم المواطن المصري سهلة وبسيطة: تعليم أولاده، صحة عائلته، مستقبل عمله وراتبه، وأولاً وأخيراً الأمن والأمان والاستقرار، فالحكومة الجديدة أداة لتنفيذ سياسة الدولة، وأهم لحمة لها هي العمل كفريق: تكامل الخبرات، وتضافر الإمكانات، وتكافل الجهود، فأهم مركب كيماوي نستعمله في الحياة 'ملح الطعام' هو مزيج لسمّين قاتلين، وأفضل السبائك هي من معادن مختلفة تأخذ السبيكة كل مزاياها، ولا ننسي ضمن تعريف فريق العمل: مجموعة من الوزراء، يعملون لتحقيق هدف واحد، ضمن سياسة معروفة، وهنالك تقييم للأداء، وهم يقدّرون الاختلافات ما بين بعضهم البعض، والنقطة التي تليها من حيث الأهمية أن الوقت لا يسمح بترف الفرص الضائعة، فالحلول إسعافية والشعب المصري في حالة ترقب وانتظار، وأهم الموضوعات التي تهم المواطن المصري: الفساد فهو عيب، وعار، وبمثابة خيانة للوطن، يجب عدم الاقتراب من شبهاته، ومحاربته لدي جميع المؤسسات، وآخرها الصناعة قاطرة الاقتصاد حيث يجب إيلاء المزيد من الاهتمام لها، والتركيز علي البني التي تدعمها من نقل، ومواصلات، وكهرباء، ومن مؤسسات، فإذا كانت الصناعة بخير فالاقتصاد المصري بألف خير. والسؤال: ماذا ينتظر الشارع المصري من الحكومة الجديدة؟ بالتأكيد لا يريد منها أن تحقق المعجزات، إنما يطالبها بالوفاء بالاستحقاقات الداخلية والخارجية علي قاعدة التمسك بالثوابت الوطنية والعربية والتعاطي بمرونة وواقعية مع متغيرات العصر الذي يعيشه المواطن المصري. فالمصريون علي اختلاف مشاربهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية ينتظرون حلولاً لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية ويطمحون لقليل من القول ولكثير من الفعل، وهذا لن يتحقق إلا بحكومة مسكونة بالهمّ الوطني، ومستوعبة لكل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلاد، حكومة إقلاع وطني، بل حكومة إعلان حرب علي الفساد والفوضي والتسيب واللامبالاة والرشوة، حكومة عنوانها ترسيخ سيادة القانون وبناء دولة المؤسسات من خلال ما يلي: أولاً: أن يكون مشروع برنامج الحكومة الجديدة الاقتصادي والاجتماعي مرجعية لعملها ونشاطها، وأن تعتمد الحكومة هذا البرنامج بمنطلقاته وأهدافه وآلياته، وأن تتغلب علي التحديات المرتبطة بالتنزيل التشاركي للدستور الجديد. ثانياً: أن تعني الحكومة بالقضايا المعيشية للناس، لاسيّما ما يتعلق منها بالصحة من خلال شمولية مظلة التأمين الصحي وتحسين الخدمات الصحية لاسيّما في المستشفيات الحكومية ومراقبة أداء المستشفيات الخاصة التي تحوّل بعضها إلي حيتان ضخمة، والتعليم الذي يحتاج إلي عملية جراحية تستأصل أورامها السرطانية بطريقة تعاطيها مع انتشار الخدمات التربوية التعليمية وتنافسيتها وتعليمات وإجراءات الترخيص للمؤسسات التعليمية الخاصة. ثالثاً: إعادة النظر في طريقة توزيع الدخل الوطني، وإعادة توزيعه توزيعاً عادلاً بين المواطنين من خلال تبني سياسة ضريبية عادلة، وجسر الفجوة بين الأسعار والأجور، عبر اعتماد سلم متحرك يحقق التوازن بين الدخل والإنفاق. رابعاً: أن تستأصل الحكومة الجديدة الفساد من جذوره الذي اتسعت مساحته في ظل الحكومات السابقة، ومكافحة الفساد، وليس بالمعجزة بل من السهولة بمكان التصدي له إذا ما أحسنت الحكومة الجديدة استثمار الموارد الطبيعية والطاقات البشرية علي نحو أمثل ووضعت الشخص المناسب في المكان المناسب وشجعت العناصر ذات الكفاءة وخلقت لهم المناخ المناسب للإبداع والتميز لا محاربتهم وتثبيطهم وتنفيرهم والقضاء عليهم وعلي إمكاناتهم، فضلاً عن تبني الشفافية والمكاشفة والمصارحة وممارسة نشاطها من فوق الطاولة وليس من تحتها، وتطبيق بحزم المحاسبة الصارمة والعقوبة الزاجرة بحق كل من ينتهك القوانين المعمول بها في البلاد. خامساً: إنجاح ما بين أيدي مصر من مؤسسات عامة تطويراً وتحديثاً، علي قاعدة عقلنة الاقتصاد المصري، ومعالجة الاختلالات البنيوية التي تُملي علي الحكومة الجديدة ضرورات التوجه إلي تحقيق التوازن الاقتصادي بين الإنتاج والاستهلاك وبين الادخار والاستثمار وبين الصادرات والواردات، وذلك من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وترتيب أولويات التنمية المستدامة. سادساً: تسببت الحكومات السابقة في تعميق ظاهرة الاستقطاب الاجتماعي بصعود شرائح اجتماعية اغتنت بطرق غير مشروعة وهبوط الطبقة الوسطي إلي الأسفل، فأضحت الندرة من نصيب الفقراء والوفرة من نصيب الأغنياء والعدالة تفترض إما أن يتساوي الناس في المظالم، وإما أن يتساوي الناس في المغانم، ومسؤولية الحكومة الجديدة أن تحقق العدالة علي قاعدة الحقوق والواجبات. سابعاً: في الوقت الذي أخفقت فيه الحكومات السابقة في تفكيك البيروقراطية التي استفحلت في مؤسسات الدولة وأعاقت الحركة إلي الأمام، فإن الحكومة الجديدة مطالبة وعلي عجل أن تطبق برنامجاً إصلاحياً اقتصادياً واجتماعياً وإداريًا، سواء من حيث المشاريع، لتحديث وتطوير الأداء الإداري، أو من حيث إعادة هيكلة المؤسسات والوزارات ودمجها وبما يؤدي إلي إنهاء تعددية الجهات الوصائية وتفعيل دور الأجهزة الرقابية والتوجه نحو ابتكار آليات جديدة تتكامل في إطارها الرقابة الوقائية مع الرقابة اللاحقة. ثامناً: تطوير التشريع الضريبي المعمول به حالياً في البلاد، بما يستجيب لاستحقاقات الدورة الاقتصادية، وتحويله إلي أداة مالية فعالة بيد الحكومة، فعندما تستشعر أن اقتصاد البلاد يعاني الركود الاقتصادي، فإن بوسعها أن تلجأ إلي تخفيف العبء الضريبي علي المكلفين من جهة وترفع من معدلات الإنفاق الحكومي من جهة أخري، وإذا ما وجدت الحكومة أن اقتصاد البلاد في حالة انتعاش فإن بإمكانها أن تعتمد سياسة ضريبة مغايرة للأولي. تاسعاً: علي الحكومة الجديدة حسم خياراتها فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي بالمفاضلة بين السياسة الانكماشية والسياسة التوسعية وفقاً للمصلحة الوطنية في معالجة الظروف الاقتصادية الراهنة، فلكل منهما إيجابياته وسلبياته وآلياته ومخاطره. عاشراً: تطوير وخلق صناعة مصرفية مصرية حديثة مواكبة لمثيلاتها في الدول العربية المجاورة وفي العالم. النقطة الأخيرة هي غلاف لكل النقاط الواردة فيما تقدم، ومفادها أن إصلاحات التغيير المطلوبة ليست إصلاحات معيشية واقتصادية فقط، بل إنها إصلاحات شاملة، وعلي رأسها الإصلاحات السياسية. فالمطالب المعيشية والاقتصادية طفت علي السطح لأنها تمس الناس مسّاً مباشراً في حياتهم ومعيشتهم وحقوقهم المباشرة من وظيفة وزواج ومسكن، وفي تقديم المطالب الاقتصادية المعيشية فإن علينا أن نميّز بين المطالب التي تبدو منطقية قابلة للتحقق والمطالب غير المنطقية التي يصعب أو حتي يستحيل تحققها. يجب أن تكون المطالب في هذه المرحلة واضحة ودقيقة، وقابلة للتحقق، لابد أن نقول أن زمن الأحلام قد انتهي وبدأ زمن الحقيقة، والحقيقة تتطلب أن ننظر إلي الأمور بمنطقية بحتة، كما تتطلب الحقيقة أن يقال إنه لا وجود للعصا السحرية التي يضرب بها 'ابراهيم محلب' الأرض فتخرج ما يريد، أو تخفي ما لا يريد. فميزان الاقتصاد المصري العام لم يبرح حتي الآن 'قلقه' الميداني المرتبط بواقعين إقليمي ودولي غير مستقرين، فكيف له أن يلتفت إلي المطالب الفئوية علي اتساعها المطروح الآن؟!، وكيف له أن يداوي أمراض الفقر والعوز الذي يضرب الأغلبية، ويستطيع أن يضمن أولويات تأمين الرغيف والخدمة العامة، في حين ينبغي له أن يعالج هنا أو هناك مشكلات طارئة فرضها تسارع الأحداث السياسية، ثم من يضمن ألا يكون هناك من دخل علي خط هذه المطالب الفئوية رغم مشروعيتها لمحاولة توظيفها لصالح أجندة خارجية عدوانية. إن أحد المفاتيح الأساسية للنهوض الاقتصادي في مصر اعتماد 'فترة سماح' إن لم أقل تجميد نسبي للمطالب الفئوية إلي موعد مقبول مع وجود إمكانية لتحمل هذا التجميد، وفي هذا السياق لا بعد أن تقوي النخب السياسية والثقافية والإعلامية باتجاه اعتماد قائمة أسبقيات في المطالب الاقتصادية من خلال عقد اجتماعي جديد قائم علي أعراف تري أن تعافي الاقتصاد المصري مسؤولية الجميع، وأن من أخلاقيات التضامن الوطني 'الشراكة' في الخسائر أيضاً، وهنا تكمن إحدي أشد الصعوبات، لأن هناك من يريد أن يغتنم فرصة تشكيل حكومة جديدة للحصول علي مكاسب معينة. ولابد أن نقرّ، أنه إذا كانت هناك ثمة مطالب تتردد هنا وهناك فيمكن معالجتها داخل أطرها ومؤسساتها في دائرة الحوار الذي ندعو إليه، لأنه المكان الأنسب لإعادة النظر في هذه الأمور ومعالجتها علي نحو يحفظ للجميع مصالحهم وحقوقهم بعيداً عن مظاهر الانفعال والتجريح والقذف، الذي أخذ شكل موضة أو صرعة يقودها محرضون يقدمون أنفسهم علي أنهم ناشطون ودعاة حقوقيون، ينبغي فهم أنهم يسوّقون لبضاعة بائرة لا رواج لها في المجتمع المصري، وغيرهم من المسكونين بوهم الإحيائية وأمجاد ماضيهم المزعوم. وهذا كله وغيره يلقي بالمسؤولية علي الجميع بالتزام المظهر الحضاري في المطالبات ووفق التسلسل والتدرج الذي رسمه النظام في الدولة من رفع الأمور إلي من أناطت بهم الدولة والأفراد السهر علي مصالح العباد والبلاد، وتنفيذ المطالب الواردة فيها وذلك في إطار تفعيل دورهم الحقيقي وتفاعلهم مع المجتمع، فضلاً عن ضرورة أن يتكاتف الجميع في التصدي لكل الشائعات واضعين نصب أعينهم مصلحة الوطن مقدميها علي أي مصالح أخري. فاستقرار مصر إن تخلخل فلن يكون للمصريين جميعاً نصيب في الدولة، لأن حداثة الشكل وهشاشة الأرض لن تفضي إلي غد أفضل، بل ستحوّل المصريين إلي غرباء في بلد عتيق الحضارة والتاريخ والمواقف الوطنية. فالإلحاح علي المطالب الفئوية، وفي هذا الظرف الاستثنائي القائم حالياً يعطل عوامل وإمكانية النهوض بالاقتصاد المصري، إن لم نقل يشوش عليها بأدق التشخيص لعدد من الأسباب الجوهرية التي لا يمكن التكيف معها دائماً. فالضغط علي الحكومة لتحقيق مطالب ومكاسب فئوية، ووقوف الحكومة عاجزة متفرجة، يجعل المعادلة عرجاء، ولن ينهي أي مشكلة أو أزمة. فالمطلوب تدبير واقعي بهندسة اجتماعية متقدمة، وقد يقول قائل إنه لا يمكن للدولة اليوم أن تلبي كل مطالب المحتجين، ولكن هناك مطالب مرتبطة بالمحلي وأخري بالآني ويمكن تنزيلها بطريقة سهلة لا تتجاوز قرارات مفعومة بقليل من الجرأة والقليل من الاحترافية، أما أن نطالب في لحظة واحدة بإجراء العدالة الاجتماعية والديمقراطية، فهذا في تقديري صعب الآن، لأن الأمر يتطلب إرادة ويتطلب تغييراً ويتطلب برلماناً وحكومة قوية منسجمة وحكيمة، تثور علي الكثير من الممارسات والخطابات، فالحل اليوم لا يكون بالاحتجاجات والتطاول علي الدولة، واحتلال الشوارع بذريعة السلمية، بل بالتحاور بشكل حضاري. هي دعوة للهدوء والتمعن والعمل بما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا، فلا مكان للانفعال أو العواطف التلقائية، إنها دعوة للعقل، للحوار دون ليّ الذراع، لبناء مصر جديدة وتعزيز المكتسبات، وهي دعوة للحكومة والشعب معاً، فسياسة فتح القلوب والعقول هي ما يحتاجه المصريون، لأن مصر للجميع تحتاج أبناءها لتتقدم لا لتدمر، ويحتاجها أبناؤها ليبقوا، لا لأن يألفوا حياة اللا أمان. يبقي الآن أن ينصرف الجميع إلي شواغله وواجباته دون إبطاء، والعمل بجد وإخلاص لتحقيق الأهداف والغايات والمقاصد الشريفة، وتجسيدها علي أرض الواقع بعيداً عن التشويش والزوابع التي لا تخدم أحداً، وبالتأكيد هناك الكثير من العمل ينتظر الحكومة الجديدة، وللحقيقة فلابد أن ينظر المواطن المصري بتفاؤل إلي المستقبل، وإلي حزمة الإجراءات والقرارات التي تصب في مصلحة كل المصريين.. لكن لابد أيضاً من التأكيد علي أن المطلوب أن تكون سياسة الحكومة الجديدة متكاملة وتعكس برنامج الإصلاح الثوري الذي ينتظره الشعب المصري قاطبة، والذي سيشكل بوصلة الأداء في المرحلة المقبلة، لتحديد السياسة الاقتصادية للدولة والتوجهات الأساسية.