مع رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم عن دنيانا في الثالث من ديسمبر 2013 احترت لأن أجد عنوانا يليق برحيل هذا الشاعر وسط كل العناوين الجديرة التي تداولتها وسائل الإعلام بعد وفاته فقلت اكتب هل رحل جيفارا مصر عنا بسب حب الشاعر نجم لتلك الشخصية الثورية العالمية التي توافقت مبادئها ومثلها مع ما كان يؤمن به ويعبر عنها في شعره، أم اكتب رحل الفاجومي أبو جلابية هذا الإنسان البسيط الذي دافع في أشعاره عن أهل الصبر والصبار الفقراء والمهمشين، أو أشبهه بالأبطال الثوريين والمناضلين في تاريخ القرن العشرين أمثال نهرو وتيتو وناصر وكسترو و جيفارا العظيم أم أقول رحل درويش الثاني أو بيرم أو جاهين أو شاعر البندقية كما لقبه به كاتبنا الراحل الدكتور علي الراعي، أم الشاعر الوطن والإنسانية، أم أبو العامية المصرية لحبه لها عندما اعتبرها أهم إنجاز حضاري للشعب المصري، أم شاعر الصعاليك لدفاعه في شعره عن المهمشين والبائسين في حوش آدم وغيرها من الأحياء الفقيرة وحبه وتعاطفه معهم حتي تذكرت واخترت الموشح الذي كتبه ولحن كلماته الإخوان الرحباني بعنوان ' ما بالها جنت بنا البلد ' ومن أبياتهاإن غاب نجم عن ملاعبنا جاءت إلينا أنجم جدد يا حبذ الأيام ضاحكة والوعد موصول لمن وعدو والعمر خيال وقصتنا قيثارة يعدو بها ولد ومن خلال تلك القصيدة ومعانيها شعرت بأني أرثي فيها شاعرنا الراحل وتخيلته بإبداعاته الشاعرية الخالدة وكأنه نجم كبير من نجوم سمائنا المصرية والعربية، كما رأيته وكأنه نحلة طافت علي الأزهار وأعطتنا من زهورها ورحيقها كل تلك الأشعار ، ورغم حزننا لهذا الفراق الذي لم نكن نرضاه ولا نتمناه فإن عزاؤنا الوحيد أن مصرنا وبلادنا الغالية مليئة وولادة للمواهب الجديدة والأنجم التي تمتلئ بها سماؤنا كما أن أشعاره الخالد ة ووصاياه الثورية الباقية ستظل حية بيننا و لن ننساها ما حيينا. ولد الشاعر أحمد فؤاد نجم في عزبة العباسة بقرية نجم بمركز أبو حماد شرقية في 23 مايو 1929 وقد سماه والده علي اسم ملك مصر أحمد فؤاد، اضطرته ظروف الفقر لأن يعيش حياة وتجارب صعبة في بداية مشوار حياته منها عمله كمزارع ومنها عمله في معسكرات الجيش البريطاني تمكن خلالها من مساعدة الفدائيين في عملياتهم ضد الاحتلال وتعلم من تلك الفترة الصعبة أن القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية وذلك بعد أن رأي الكبار ينهبون الورش بمدن القناة وينقلونها إلي بيوتهم مقابل الفقراء الذين يتضرعون جوعا ورغم ذلك هم الذين يدافعون عن هذا الوطن، ثم عمل في ا لبناء ثم عامل بالأجرة وترزي وساعي بريد وغيرها من الأعمال الصعبة بالشرقية ومدن القناة حتي استقر به الحال في القاهرة ليبدأ مشواره الفني الذي قاده لأن يصبح من أهم شعراء العامية في مصر، وعندما انطلقت أشعاره العاطفية وغيرها من الأشعار تلاقت أشعاره وأحاسيسه مع ألحان وأداء توأم روحه الشيخ إمام عيسي، بعد أن تقابلا في منطقة حوش آدم بالمقطم وأخرجا منها الكثير من الأشعار الغنائية التي بدأت عهدها الجديد في تلك المرحلة و عبرت عن روح الاحتجاج الجماهيري والحث علي الصمود والمقاومة وبخاصة بعد نكسة يونيو 1967 وأصبحت بعدها منطقة حوش ادم محببة إلي الشاعر نجم وظل مقيما فيها ومتيما بها بعد أن أصبحت مكانا وملتقي للمثقفين والسياسيين والمبدعين الحالمين بمصر الجديدة. بدأ احمد نجم مشواره الإبداعي عندما صدر له أول ديوان بعنوان صور من الحياة والسجن بعد أن فاز به في مسابقة المجلس الأعلي لرعاية الآداب والفنون، وبعد خروجه من السجن عمل بالإذاعة، وبعدها بدأت أعماله تتدفق عندما استطاع أن ينهم من مفردات اللهجة العامية المصرية والتي كان غواصا ماهرا في بحورها وبارعا في اختيار كلماتها وبناء معانيها رغم أن البعض يراها مجرد كلمات متناثرة ومتداولة بين الناس في معاملاتهم اليومية لأنهم لا يدركون ما فيها من روعة وجمال بعكس الشاعر نجم الذي كان عارفا بشعابها المرجانية ولآلئها التي شكل منه قصائده التي برع فيها متفوقا علي نظرائه من شعراء العامية في عصره، ومن أشعاره العاطفية ' أنا أتوب عن حبك أنا، وأهيم شوقا، عشق الصبايا، ومن أشعاره الوطنية ' بقرة حاحة النطاحة، يا مصر يا بهية، علي الضريح السكة مفروشة، يا مصر قومي وشد الحيل ، الجدع جد ع والجبان جبان، ومن أشعاره السياسية خرجت الكثير من الأعمال ومنها ' ما رأيكم جيفارا مات ' والتي غناها مع الشيخ إمام، و موال الفول واللحمة، الشحاتين، و علي المحطة، الشوربة العجيبة، يعيش أهل بلدي، جائزة نوبل، و الخواجة الأمريكاني، هم مين وإحنا مين البتاع، حسبة برمة، كلب الست، نيكسون جاء، تذكرة مسجون، و شقع بقع، الثوري النوري، وورد الجناين لشباب ثورة 25 يناير ' وغيرها من القصائد التي لا تعد ولا تحصي ورغم ذلك كتب الكثير من المقالات ذات الرؤي السياسية والاجتماعية الجريئة التي ثار وعبر من خلالها علي الكثير من الأوضاع بالمجتمع ومنها مؤخرا ما هوا متعلق بمرسي والإخوان قبل ثورة الثلاثين من يونيو مقال بعنوان' ومراساه ' ثم إنتاج فيلم الفاجومي الذي يحكي عن سيرته الذاتية ومشواره الفني الطويل وكان أخر انتماء سياسي له بعد حزب الوفد حزب المصريين الأحرار وأعلي تكريم رفيع حصل عليه اختياره من جانب المجموعة العربية لمكافحة الإرهاب والفقر النابع للأمم المتحدة كسفيرا للفقراء أهم المراحل في حياته : - من أهم المراحل التي أثرت في حياته الفنية تقابله مع الشيخ إمام عيسي بحارة حوش آدم بالمقطم فأكملا كلا منهما الأخر عندما انسجمت واجتمعت الكلمة مع الأداء فرقصتا طربا وعندها تسللا معا إلي قلوب المصريين وذكروهم بأيام وأمجاد سيد درويش وألحانه وذكروهم بأمجاد شعراء الزمن الجميل وعلي رأسهم الشاعر بيرم التونسي، و بدأ إنتاجهما الثوري يتدفق إلي القلوب في الوقت التي كانت تمر فيه مصر بأصعب لحظاتها بعد نكسة 1976 وما أحدثته من صدمه وارتباك واهتزاز للثقة في النفس عند المصريين ومعه فقد نجحا معا في استثارة الشعب وحس لهيبه مرة أخري بالمقاومة والصمود والاستعداد للمعركة الفاصلة هذه المرة من أجل النصر و الكرامة ولهذا أسمعا الشعب لغة شعرية وثورية جديدة وعلي غير ما كان مشاع للأشعار والخطب في تلك الفترة ، كما حفزوا الشعب ضد الأنظمة لما هو في صالح الأمة، وعملا علي استعادة الوعي الشعبي والإيمان بالفكر الثوري وأحييا وجدان الأمة بأداء قصيدة بقرة حاحا النطاحة ليلة التاسع من يونيو إثر خطاب عبد الناصر للتنحي عن الحكم وإعلان تحمله للهزيمة مما ألهم حماس الشباب والجماهير في تلك الفترة فتمسكوا بعد الناصر وأعلنوا التحدي والصمود كما كانت الأشعار لها بالغ الأثر في تكوين مظاهرات الطلبة بالجامعات المصرية في فترة السبعينات فيما بعد وغيرت من مفاهيم الثورة والثوار إلي ما هو أفضل لصالح الوطن ، أما شاعرنا نجم فقد جاء شعره متضمنا علي النقد السياسي المرتكز علي الحس الاجتماعي المتطلع إلي الحرية والعدالة الاجتماعية ونصرة المقهورين والمهمشين من ساكني القبور والحارات وهو ما أدي لاعتقاله ولأكثر من مرة في ظل حكام مصر السابقين عبد الناصر والسادات ومبارك بسبب سخريته أيضا في قصائده من السلطة والنخب السياسية ولهذا فقد جاءت معظم أعماله سياسية وتحريضية لصالح الوطن، ورغم كل مالاقاه من صعاب فإن ذلك لم يمنعه من مواصلة مشواره الثوري والنضالي وكانا فيهما أقوي من كل القيادات لأنه كان شاعرا ومناضلا وقائدا ومحبا للمقهورين والمستضعفين ولهذا فقد ذاع صيته وعلا نجمه وتغني بشعره الكثيرون في مصر والعالم العربي. كانت أشعاره تخرج من فمه كالبارود وبخاصة فيما يتعلق بحبه الشديد لمصر ووطنيته التي كانت تجري في عروقه لدرجة أنه قال يوما أن مصر محفوظة من الله لأن الله الذي خلقها أحبها، وكان شعره متدفق الإحساس والموهبة والثورية تجاه قضايا الوطن ومنتقدا كل الأوضاع السياسية والاجتماعية وبخاصة حلمه تجاه تحقيق العدالة والكرامة والحرية للمصريين جميعا وبخاصة الطبقات الفقيرة منهم ولهذا فإن شعره كان بالغ الأثر علي قلوب الجماهير لأن أشعاره كانت وليدة اللحظة وكان قلمه كالسهام الموجهة ولم يعبأ بالحكام أو يخاف السجون مقابل أن يرفع احتجاجاته و صرخاته من أجل القضايا التي كانت تشغله ويدافع عنها. وعن أهم صفاته: - كان الشاعر نجم في حياته إنسانا بسيطا في مظهره وطريقة معيشته ولا يحب المظاهر ولا الحواجز التي تحول بينه وبين الطبقات الفقيرة التي كان يحب أن يعيش بينها بطبيعته المتحررة من القيود وكان محبا للدفاع عنها ويراهم أصحاب الشهامة ويسميهم بولاد الجدعان، عاش حياته البسيطة بجلابية رغم أنه كان يستطيع أن يتقمش ويرتدي أحلي الثياب ويسكن في أحلي الأماكن وكان يطلب للفقراء دائما ولم يطلب لنفسه ولم ينافق أو يمدح الحكام علي حساب قضايا الوطن وحساب كرامته وقوة شخصيته واعتزازه بمصريته ولم يخشي أحد وظل قريبا من حوش آدم وطلب أن يتم تأبينه من مسجد الحسين وأن يتم عزاؤه بسرادق يقام في المنطقة التي أحبها ونسج منها شعره وطالبا أن يحمله شباب الثورة علي الأعناق وصولا إلي مقابر الغفير بالسيدة عائشة وهو ما تم فعلا . أسعد مراحل حياته: - كانت أسعد لحظات حياته هو رؤيته ومعايشته لثورة 25 يناير وهي لحظات عاش طويلا يدافع بأشعاره من أجلها حتي ألهمت مشاعره وكتب العديد من القصائد التي رددها الشباب الثوري في ميدان التحرير وميادين مصر كلها، وبعد وصول مرسي والإخوان إلي الحكم وبسبب تاريخه النضالي الطويل وتحليله الدقيق للمجتمع الذي كان قريبا منه فإنه كان يشعر بالخوف علي الثورة من هؤلاء لأنه كان يراهم جماعة خطفت مصر وثورتها وهويتها لتدخلها من جديد في نفق الظلام والتشدد ورغم ذلك كان يراهن علي قدرات المصريين في أنهم سينجحون في إزالة الإخوان عن الحكم بسرعة وإعادة الثورة من جديد في أيدي الثوار وهو ما حدث بالفعل في ثورة الثلاثين من يونيو وبهذا يكون قد تمكن في أواخر سنوات عمره أن يري ثورتين أزالتا نظامين ورئيسين وهو ما حلم به لمصر وتنبأ به طويلا حتي مات وهو يأمل في شباب مصر ويوكل إليهم أن يعيدوا مصر إلي مجدها الذي تستحقه ورأي فيهم بأنهم الأجدر في أن يكملوا المشوار الثوري من أجل بناء دولة ديمقراطية تحقق العدل والمساواة والحرية والكرامة لكل أبنائها.