يعتبر الفرنسيون من أكثر الشعوب حبا للقراءة والاطلاع فهي بلد الثقافة والفنون بلا منازع، فباريس مدينة النور تتميز بانتشار المكتبات الشهيرة والأكشاك في ربوعها لبيع الصحف والإصدارات التي حتما ستجدها بجوار محطات المترو والقطارات والأماكن السياحية الشهيرة وأكثرها شهرة وروعة الأكشاك المتراصة علي ضفاف نهر السين بقلب العاصمة والقريبة من أحياء باريس القديمة. ومع بدايات الهجرة العربية بالقرن الماضي لبلاد أوروبا ظل المهاجر العربي والمسلم الآتي من الشرق البعيد يعيش غريب الوجه واليد واللسان إلي أن بعثت السنوات الأخيرة حركة من التواصل الثقافي البشري وتضاعفت حركة السفر ثم الدور الكبير الذي لعبته تكنولوجيا المعلومات وتعدد وسائلها، وبالتالي لم يعد الكتاب العربي سلعة نادرة في أوروبا كما كان عليه الحال من قبل, وأصبحت صحف الوطن الأم والإصدارات متاحة للعربي كنظيره الأوروبي, ومع تعدد تقنيات التواصل الحديثة انعدم عند المهاجر مفهوم الاغتراب من روحه ومعناه بعد هذا التقارب الكبير بين المهاجرين وأوطانهم, وأدي زيادة عدد أبناء الجاليات العربية إلي خلق أنشطة ومهن وحرف متعددة لخدمة تلك الجاليات ومنها ممارسة مهنة بيع الكتب والصحف وبالتالي انتشار الأكشاك وبعض النصبات الخاصة بهم، ويعتبر الحاج محمد إبراهيم همام من أوائل المصريين والعرب في ممارسة تلك المهنة بباريس، وعم محمد من قرية أولاد إسماعيل مركز المراغة بسوهاج من مواليد 1939 حاصل علي الشهادة الابتدائية القديمة, هاجر إلي فرنسا في سبعينات القرن الماضي وحصل علي أوراق الإقامة وبدأ قصة كفاحه ببيع الشرائط الدينية قرآنا وتفسيرا لأشهر المقرئين والعلماء المصريين وشرائط الأغاني لأشهر وأقدم المطربين في مصر 'كأم كلثوم, وعبد الوهاب, وفريد الأطرش, عبد الحليم حافظ', جاء عليه حين من الدهر في بداية مشوار الغربة الصعب يتجول عند المدن الجامعية والمساجد مترددا علي المقاهي لبيع تلك الأشياء وكان أشهر مكان له هو مدينة الطلبة في باريس، وبعد قصة كفاح وترحال استقر بفطنته في منطقة شعر فيها بتبدد الغربة منطقة تشبه الأحياء الشعبية والدينية في القاهرة كحي السيدة زينب والأزهر والحسين ومنطقة الموسكي, وهي منطقة 'باربيس' الشهيرة الدائرة الثامنة عشر بباريس حيث يكثر بها العرب والمهاجرون الأفارقة ويكثر بها المساجد والمحلات العربية والمطاعم وسوقها الشهير الذي يقام ثلاثة أيام أسبوعيا بين منطقة باربيس ولاشابل, حقيقة ما أجمل المناسبات الدينية وبخاصة شهر رمضان في تلك المنطقة التي استهوته وأخذت لبه فصار عاشقا ومحبا لها بسبب كثرة المظاهر الاحتفالية والفلكلورية لتعدد الجاليات العربية بها علي حساب سكانها الأصليين من الفرنسيين, افترش الأرض في بداية مشواره حتي أصبح له سبوبة ' نصبة' وبدأ في بيع الشرائط والكتب والصحف, وعندما وجد إقبال من أبناء الجالية توسعت تجارته وبدا يلبي لها ما تحتاجه من كتب دينية لأكبر علماء المسلمين وكتب التراث الديني والشعبي وكذلك كتب الفكر والثقافة والسياسة وبخاصة التي تتعلق بعبد الناصر والسادات كذلك شرائط القران الكريم لأشهر المقرئين والمفسرين والكتب المترجمة والمصاحف وكتب التفاسير, ثم بدأ في تلبية بعض الاحتياجات الأخري كالملابس الدينية وأغطية الرأس وحجاب المرأة المسلمة, والمسابح وسجاجيد الصلاة والعباءات وأدوات التطييب والسواك والعطور الشهيرة كالفل والياسمين والعنبر, واللوحات الدينية وكتيبات الحج والعمرة والأدعية وشجرة الأنبياء، ناهيك عن بعض العطارة من الأعشاب الطبية المرتبطة بالوصفات من باب العلاج والتبرك, كما انه يعمل بالعلاج بالقران الكريم عبر كتب الأزهر الشريف إضافة إلي كتب تفسير الأحلام التي تساعده في تفسير الرؤي لأهل المنطقة، يسمونه الناس بعم محمد المصري وأحيانا بعبد الناصر, بسبب أحاديثه العزبة ولباقته وقدرته علي الإقناع وموهبته الكبيرة وحفظه للقران الكريم وتقديمه للنصائح لكثير من شباب المنطقة الخارجين علي القانون بممارستهم للعنف والسلوكيات السيئة مما يجعله يقوم بهدايتهم, وعادة ما يلجا إليه المتنازعون من أبناء مصر والجالية العربية في بيته ليلا ليحكم فيما بينهم ويرد الحق لأصحابه كما يساعد أيضا في حل المشاكل الأسرية, وتعتبر مصر والسعودية من أهم البلاد التي يستورد منهما بضائعه, كما يقبل عليه العرب والمسلمون يقبل عليه أيضا الفرنسيون للتعرف علي بضاعته وشراء بعض الكتب المترجمة كتلك التي تناقش موضوعات التعصب والعنصرية والتي توضح روح الإسلام السمحة والمفسرة للقرآن, أو شرائهم لبعض الأعشاب وتمتعهم بالحديث معه بلغته الفرنسية البسيطة التي اكتسبها بالاغتراب وما إن يتحدث في موضوع ما بسبب فصاحته إلا وتجده يتحدث بحديث العالم العارف بالأمور الدينية والدنيوية وتراه دائما بسوما متسامحا وكريم ويدعي دائما للآخرين بالهداية ولا تمشي من عنده إلا ويستهويك بان تشتري شيئا من بضاعته ولابد أن ترجع له مرة أخري بعد أن يجذبك إليه. يقول عم محمد ذهبت للحج أكثر من مرة لتأدية المناسك, وقد وفقني الله في تربية أبنائي بعد أن نالوا في مصر اعلي الشهادات, وطوال فترة اغترابي في فرنسا اشعر بفخري بكوني مصريا واعتبر أني سفير لبلادي وسعدت جدا لثورة 25يناير التي حلمنا كثيرا بها سعيد بشبابها وانجازاتها ونحمد الله أننا استرددنا مصر من قبضة الإخوان بعد أن خدعونا ونشكر الجيش والشرطة علي تلك الوقفة الوطنية والرجولية مع الشعب في ثورة الثلاثين من يونيو وشعرنا الآن أن مصر رجعت لنا تاني بخير و يارب يجتمع المصريون علي حبها وبذل العطاء من أجلها ويعود لها الأمن والأمان لأنها غالية علي قلوبنا ونفتخر بها وبتاريخها أمام العالم الذي نراه هنا معترفا بأنها أم الدنيا ولهذا أنا هنا اعتز بمصريتي وبعروبتي وبكرامتي ويكفي هنا أن رئيس الشرطة ورجالها بالدائرة وكذلك العمدة يتوقفون عندي ويلقون التحية ويطمئنون علي أحوالي في كثير من الاحترام ربما بسبب الدور الأخلاقي والتربوي والتثقيفي لنشاطي وأثره علي سكان المنطقة من الخطرين بسبب أنها ساخنة علي الدوام وتشبه في مصر منطقة بولاق والباطنية في العنف فقط ورغم ذلك لم أتعرض من هؤلاء الشباب لأي أذي يذكر من سرقة أو اعتداء بل وجدت فيهم مع هدايتي لهم قلوبا مؤمنة وأشخاصا أسوياء ومع إقناعهم والاستماع إلي مشاكلهم والسعي إلي حلها يمكن أن يصبحوا رجالا صالحين ويعطوا تصورا مخالفا للسلطات الفرنسية لما عرف ولصق بأبناء الجالية من سلبيات، ولا يفوتني هنا في هذا المقال إلا أن أتقدم بالشكر للمجهود الذي تقوم به قواتنا المسلحة وجهاز الشرطة للحفاظ علي الاستقرار والأمن القومي المصري وندعوا المصريين جميعا للتلاحم من أجل صد هذا المخطط الصهيوني الأمريكي التركي الكبير علي المنطقة.