تؤكد كل الأدلة والوقائع أن ثمة علاقة خاصة نشأت بين الإخوان وسلطة الاحتلال الإنجليزي التي سمحت بقيام الجماعة وانتشارها ودعمها بأكثر من وسيلة، وإلا فلماذا لم تتصدَّ تلك السلطة للإخوان كما تصدت لكافة الحركات الوطنية وقتها؟ والحقيقة أن الموقف العام للإخوان لم يكن متعارضا مع سياسة الاحتلال.. إذ أعلنوا أن هدفهم هو خلق المجتمع المسلم من خلال 'تزكية النفوس، وتطهير الأرواح' وكل ذلك لا علاقة له بقضية التحرر الوطني والتخلص من الاحتلال الانجليزي.. ناهيك عن اعلانهم الدائم بأنهم لا يحاربون إلا الشيوعية ولا يتصدون إلا للنفوذ اليساري.. والحقيقة أنه كان أمام الإخوان خياران منذ البداية: إما التعاون مع الوفد حزب الأغلبية الساحقة.. وإما الارتباط بالقصر وأحزاب الأقلية المنضوية تحت لوائه.. ثم سلطة الاحتلال التي تري المشهد العام وتضبط اتجاه الريح.. وقد تغلب الاتجاه الثاني لخشية الإخوان من الذوبان في حزب الوفد بجماهيريته الواسعة.. وقررت قيادة الإخوان الارتباط بالقصر الملكي وتوابعه، وبرعاية خاصة من رجل الملك 'علي ماهر باشا'.. ومن ثم اتسع نشاط الإخوان في عهد حكومات القصر، وانتشرت شعبهم علي نطاق الدولة، وتضاعفت أعداد فرق الجوالة وكافة التشكيلات الإخوانية.. وقد تأكد كل ذلك وأصبح موقفا سافرا بعد تعيين حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان، والذي جاهر بآرائه المؤيدة للسراي.. غير المعادية للإنجليز.. وقد تم قطع السياق، واسقاط كل الحسابات عندما فاجأت ثورة 23 يوليو 1952 الجميع.. وراح الناس يتساءلون عن علاقة الثورة بالإخوان بل إن الإخوان أنفسم كانوا يتساءلون، وكان بعضهم يظن أنها 'حركة إخوانية' وفي الحقيقة أن بعض قيادات الإخوان أرادت أن تعطي ذلك الانطباع غير الصحيح.. ومن يقرأ ما كتبه الإخوان يكتشف أنهم مصرون علي اقناع أنفسهم والأخرين بأنهم هم من قاموا بالثورة.. وكانوا أول وآخر من أبلي فيها.. والحقيقة أن مذكرات الضباط الإخوان ممن كانوا علي علاقة بجمال عبد الناصر تؤكد أنهم لم يكونوا علي علم بالاستعداد للثورة.. أو مواعيد التحرك. وأكد الضابط الإخواني حسين حمودة في مذكراته أنه سأل عبد الناصر عمن وضع خطة عمليات الثورة فأجابه أنه وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين قد وضعوا الخطة وعرضوها علي لجنة قيادة الضباط الأحرار فأقرتها.. وقال حمودة إن الذي أنقذ خطة الثورة بعد انكشاف أمرها هو القائم مقام يوسف صديق ويعلن أسفه لأنه 'من الضباط الشيوعيين'. ومع كل الحقائق المتعلقة بثورة يوليو 1952 واعترافات الضباط الإخوان بتضاؤل دورهم فيها.. وعدم إشراكهم في التخطيط، أو علمهم بالقوات المشاركة واقتصار أدوارهم علي عمليات تنفيذية هامشية.. فإن قيادات الإخوان 'الهضيبي' ومن بعده 'التلمساني' يضخمون دورهم ويحاولون ايهام الناس بأنهم 'صناع الثورة وحماتها وأن عبد الناصر قد سرقها منهم بعد أن كان قد تعهد معهم علي تنفيذ أهدافهم ثم خان هو وأعضاء مجلس القيادة العهد والبيعة'.. وقد وصل الأمر إلي ادعاء صلاح شادي 'قائد البوليس السري داخل الإخوان' بأن موعد قيام الثورة تأجل يوما في انتظار موافقة المرشد الهضيبي الذي ذهب نفر من الإخوان إلي الاسكندرية للحصول علي موافقته.. وكذا ادعاء حسين حمودة 'أن تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بالثورة ليلة 23 يوليو 1952 مكون من 99 ضابطا معظمهم من الإخوان ومنهم خمسة من الشيوعيين خالد محيي الدين، يوسف صديق، كمال رفعت، أحمد حمروش، كمال الحناوي وأقلية ضمها عبد الناصر من الضباط معدومي الضمائر كأمثال شمس بدران وعلي شفيق صفوت وحمزة البسيوني'.. والثابت أن الإخوان كانوا آخر من أيد الثورة حيث اختفي الهضيبي ولم يظهر إلا بعد التأكد من نجاح الثورة وطرد الملك.. وجاء في بيان الهيئة التأسيسية للإخوان الصادر أول أغسطس 1952 تأييدا للثورة أن خطوط الإصلاح تتحدد في أمور ثلاثة ظالم يقتص منه، ومظلوم ترد إليه حقوقه، وأوضاع مكنت الظالم من الظلم، يجب أن تتغير تغييرا شاملا في كل الجوانب التي استطاع الطغاة أن ينفذوا منها إلي مآربهم.. وتقول كافة المصادر إن تأييد الإخوان للثورة كان حذرا بفعل تشكك المرشد الهضيبي.. حتي وصفه البعض بالستار الذي يخفي من خلفه صراعات وشكوكا.. وصراعات مستترة.. وقد بدأت 'بشايرها' تظهر تباعا.. فعندما أعلنت الثورة قانون الإصلاح الزراعي 9 سبتمبر 1952 وجاء فيه أن الحد الأقصي للملكية مائتا فدان رأي الهضيبي أن يكون الحد الأقصي للملكية خمسمائة فدان، وصمم عبد الناصر علي مائتي فدان فقط، وتململ الهضيبي.. ولم يقتنع برأي عبد الناصر.. ولكنه كظم غيظه.. ولم يشأ أن يفجر الصراع وقتها.. وفضل مهادنة الثورة أملا في تطويعها مستقبلا.. كان هناك ود مفقود، وشكوك لها أسبابها بين عبد الناصر والهضيبي.. وكان الاثنان يرغبان في تأجيل الصدام.. واظهار الود والمجاملات.. فتم الاحتفال بذكري البنا وشارك فيه عبد الناصر وبعض زملائه.. وتقرر اعادة المحاكمة الخاصة باغتياله.. ناهيك عن استثناء الإخوان عندما جري حل الأحزاب.. وقد طلب عبد الناصر من الهضيبي ترشيح عدد من الأسماء الإخوانية ليشاركوا في الحكم كوزراء بشرط ألا يكون هؤلاء ممن شاركوا في أعمال ارهابية أو انحرطوا في تنظيمات سرية.. وحاول الهضيبي تجاهل شرط عبد الناصر.. وفرض أسماء بعينها 'صلاح شادي كمال عبد الرازق منير الدلة حسن عشماوي'.. فقام مجلس قيادة الثورة باختيار الشيخ الباقوري وآخرين كممثلين للإخوان في الوزارة فرفض الهضيبي هذه الأسماء وعندما التزم الباقور باختيار الثورة قام بفصله.. وكان أول خلاف مؤثر بين الثورة والإخوان..