[email protected] لم يكن يطلب من متاع الدنيا إلا مايقيم أوده ويعينه علي العمل والصلاة والذكر والعبادة، كانت تكفيه جرعة ماء وكسرة خبز أوبضع تمرات بلاكلفة أو زيادة، فقد طلق الدنيا وأشاح بناظريه عنها، وكان دعاؤه أن "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا، في أيدينا نحن نملكها وفي قلوبنا هي تملكنا"، كان يشعر أن خلاصه في الزهد والرضا بالقليل والاستعداد بالعمل والجد ليوم الرحيل، وهو لايزال يذكر كيف أدبه شيخه وعلمه، وطلب منه أن يحتاط ويلزم وألايجاهر بمالايعرف حتي لايندم، إذ ألفاه يوماً مضجعاًعلي جذع شجرة وارفة مردداً " ياالله ..ياولي الصابرين"، وإذا بالشيخ ينهاه ويراجعه " يابني الزم وتأدب ولاتحسبن القول جزافاً والكلمات خفافاً، يابني إذا ماجاءنا الابتلاء فهذا قدر أعاننا الله عليه، لكننا أبداً لانطلبه، فنحن أضعف من تحمل البلاء، وعليك أن تناجي ربك تأدباً بما يقر في فؤادك ويكتب عليك من مرادك، وليكن قولك: ياالله ياولي الحامدين الشاكرين، وليكن دعاؤك: اللهم اجعلنا عبيد إحسان لا عبيد امتحان"، وفي هذا منجاة لك ورحمة لنا. هكذا تذكر شيخه وطفرت من عينيه دمعة وندت من شفتيه كلمات الدعاء وطلب الرحمة والمغفرة، وسرعان ماشاغلته أحواله وأخذته أفكاره وحزبته أموره، وتعجل الفتوح والإشارات والفيوضات والتجليات والندوة، وتمني في ذاته المناجاة والوصال والحضرة. كان شيخاً مهيباً في سمته، بسيطاً في حاله وهندامه وثوبه، وكان حريصاً أن يأكل من كد يده، فهو لم يقبل العطايا والهدايا من أحد، ولاخالط الناس في مأكل ومشرب، وكان دعاؤه في ذلك " اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك"، كان يغشاه حال من الرضا والغني والعفاف، يصحو مع بشارات الفجر يتطلع إلي السماء الصافية فوقه، يناجي ربه ويقرأ ورده ويقيم صلاته وبعدها يخرج فرشته وحرامه من كوخه للهواء مع أول شعاع من الشمس يداعب ناظريه، يحمل فأسه يحتطب بها ويفلح بها قيراط الأرض حوله، يزرع الشعير لخبزه وبعضاً من البرسيم لعنزة عنده يرعاها ويحلبها، وغالباً ماكان يقدم حليبها للعابرين والزائرين والسائلين وأبناء السبيل. كان منقطعاً للعبادة والعمل وغاية جهده أن يقوم ويصوم ويذكر وأن يسجد ويشكر ويقترب، هو لم يسعي أبداً إلي أحد، ورغمها سعي الناس إليه طلباً للعلم والفقه والتوسل والبركة، وهو لم يقبل أبداً أن يعينه أحد من مريديه في شئون حياته وعمله ولم يستخدم أحداً من طلاب العلم والتلامذة بل كان هو الذي يقوم علي رعايتهم وحسن ضيافتهم ووفادتهم، وفي ذلك ربما خالف عرف كثيرين من المشايخ والعارفين وتفرد عنهم في الاستغناء والاستكفاء والزهد، كان في ذلك أقرب مايكون إلي مولانا "واصل بن عطاء " والذي دائما ماعلم تلاميذه ومريديه رؤية النص القرآني في دلالاته ومعانيه قبل حاكميته ولزومه ومراميه. كان شيخنا تلميذاً علي البعد لمولانا أبا حذيفة واصل بن عطاء الذي كان بدوره تلميذاً للحسن البصري، ومؤسس فرقة المعتزلة الإسلامية. حصل الخلاف بينه وبين الحسن في حكم مرتكب الكبيرة، فاعتزل حلقة الحسن، فقال الحسن "اعتزلنا واصل" فتسمت فرقته بالمعتزلة وانضم إليه عمرو بن عبيد. كان شيخنا مفتوناً بابن عطاء وكثيراً ماقدم في مجالسه للناس شروحاً علي مؤلفه "في التوحيد" وكذلك عن كتابه "المنزلة بين المنزلتين"، وكثيراً ماكان يقرأ عن مآثره ومأثوراته في "البيان والتبيين" للجاحظ و" شذرات الذهب" لابن العماد الحنبلي و "الكامل في اللغة والأدب" لأبي العباس المبرد، وكثيراً ماتوقف شيخنا عند إعجاز الكلم عند ابن عطاء، خصوصاً في خطبته الشهيرة التي جانب فيها الراء وكان يجعلها شيخنا مفتتحاً لمجالسه، إذ يقول: الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولايؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه علي مثال سبق، بل أنشأه ابتداعاً، وعد له اصطناعاً، فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل علي ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لايعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا مثيل له، إلهاً تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعطي فيحلم، ويدعي فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصدق طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخاصته وصفيه، ابتعثه إلي خلقه بالبينات والهدي ودين الحق، فبلغ مألكته، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضياً علي سنته، موفياً علي قصده، حتي أتاه اليقين. فصلي الله علي محمد وعلي آل محمد أفضل وأزكي، وأتم وأنمي، وأجل وأعلي صلاة صلاها علي صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد. وكان يقول: أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوي الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، فأحضكم علي ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوي الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد. ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفوائن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلي حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلواً، ومزجت لهم سماً. أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، قبضتهم بمخلبها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العز ذلاً، ومن الحيلة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لاتعاينُ إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحسس منهم أحد. فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوي، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون. أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم. بسم الله الفتاح المنان. قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ذات مرة بينما كان شيخنا يختم مجلسه فيقول: "نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم. وأدخلنا جنات النعيم. وأقول ما به أعظكم، وأستعتبُ الله لي ولكم"، لمح شاباً حسن المظهر ذو طوية تدل علي حسن الفطن ونقاء الجوهر، يشع وجهه بضياء ويشي صوته بسكينة ورضاء، يغالب نفسه في تردد ويعالج سؤاله في تودد " ما الرأي شيخنا الجليل فيمن يقول بأن الفاسق لامؤمن ولاكافر؟" تبسم الشيخ إعجابا وترفق، وتنهد في تؤدة ثم تحدث في تدفق، ذلك أن الفتي أشار إلي ماقال به حبيبه ومعلمه أبو حذيفة واصل بن عطاء، ولئن بدا للأمر أول وهلة ملمس خشن، فقد وقع في نفس صاحبنا موقع حسن، وكان وعده إذا شاء الرحمن فللحديث بقية، في مجلس الأربعاء مابين المغرب والعشية، فخزانة التراث لاتزال غنية، وفيها فيوضات وإشارات وحسن روية.