إذا صح ما يقول رئيس حزب »الحرية والعدالة« من أن الدستور سيكون محل »توافق عام«.. فلماذا الإصرار غير العادي علي أن يكون التمثيل في الجمعية التأسيسية للدستور معبرا عن الوزن العددي لتيار الأغلبية في مجلسي الشعب والشوري؟ وإذا كان هناك اقتناع ب»التوافق العام«، فإنه يكفي أن يكون هناك ممثل واحد لكل حزب من الأحزاب السياسية القائمة يعبر عن رؤية حزبه فيما يتعلق بالدستور، إلي جانب ممثلي شباب الثورة وأساتذة القانون الدستوري ورجال القضاء، وممثلي النقابات المهنية والعمالية وأساتذة الجامعات واتحادات المرأة ومنظمات المجتمع المدني والفلاحين.. إلي جانب من يمثلون المسيحيين والأقليات.. وإذا لم تكن هناك خلافات مهمة بين جميع الأحزاب والقوي السياسية حول بنود الدستور القادم.. فلماذا التشبث بأن تختار الأغلبية البرلمانية.. الشخصيات التي تضاف إلي »الجمعية التأسيسية« من خارج البرلمان؟ ألم تكن تلك هي وسيلة اختيار شخصيات من أنصار تيار الأغلبية.. في الأغلب والأعم بحيث تصبح نسبة تيار الأغلبية في الجمعية التأسيسية أكثر من سبعين في المائة؟ وإذا حدث ذلك، في نفس الوقت، الذي يتم فيه استبعاد شخصيات لها ثقلها ووزنها وريادتها وخبرتها القيمة في القانون الدستوري وفي وضع الدساتير لكي يحل محلهم أشخاص تنحصر مؤهلاتهم في انتماءاتهم الحزبية، والمعيار الوحيد لاختيارهم هو الولاء لتيار الأغلبية وليس الكفاءة، وقد لا يعرف أحدهم الفرق بين الجمهورية الرئاسية والجمهورية البرلمانية! .. فكيف يكون شكل الدستور القادم؟! وهذا الحرص الشديد علي الأغلبية العددية في الجمعية التأسيسية ليس له إلا تفسير واحد هو الرغبة في الانفراد بوضع الدستور وصياغة مواده بعد التحكم في تشكيل الجمعية التأسيسية، وكذلك يظهر الآن بوضوح أن تيار الأغلبية يعتزم طرح أفكار وتوجهات حول الدستور تتطابق بالكامل مع رؤية هذا التيار وتختلف جذريا عن رؤية بقية تيارات وأطياف المجتمع المصري.. وبالتالي، فإن الحديث عن »توافق وطني شامل« ليس سوي خدعة وتضليل. الدليل علي ذلك كله هو موقف رئيس حزب الحرية والعدالة في الاجتماعين اللذين عقدهما المجلس الأعلي للقوات المسلحة مع قيادات الأحزاب السياسية. فقد كان ذلك الموقف يتخلص فيما يلي: لا مساس بما تم من اجراءات لتشكيل الجمعية التأسيسية. علاج الموقف الراهن المرفوض من القوي السياسية. ما عدا الإخوان والسلفيين يكون من خلال الجمعية المذكورة ذاتها! إحلال أشخاص من »الاحتياطي« محل أعضاء في الجمعية! .. ووعد من رئيس حزب »الحرية والعدالة« بأن يقنع جماعته باتخاذ هذه الخطوات.. وهي كلها غير ملزمة له في واقع الأمر. وكل ذلك يعني أن الجمعية التأسيسية ذات الأغلبية، التي تنتمي إلي تيار واحد، لا يمكن أن تكون شرعية.. وبالتالي تضع دستورا يقبله المجتمع.. فالأغلبية البرلمانية ليست صكا أو تفويضا لإصدار دستور للبلاد وإقصاء باقي التيارات الأخري وفرض الوصاية علي مستقبل مصر.. ومن هنا، فإن الموقف الصحيح هو انتخاب جمعية تأسيسية للدستور من خارج البرلمان بمجلسيه، وبترشيح من جهات تمثل كل أطياف المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية وتكون مستقلة تماما عن سلطات الدولة.. أما استغلال الغلبة السياسية وعدم الاعتداد بالقوي والأطياف الأخري في المجتمع.. فإنه يعني اختطاف الدستور، ويعني أن الأغلبية لم تفرق بين مهمة الرقابة والتشريع للقوانين وبين مهمة وضع الدستور.. أبوالقوانين، وعلي يد جمعية تعلو علي كل السلطات. وهناك من يتحدثون باسم تيار الأغلبية ليؤكدوا انه لا محل لأية مخاوف أو قلق من انفرادهم بصنع الدستور.. والقرار، ولكن الماضي والحاضر علي السواء يعززان هذه المخاوف. ففي مستهل العام الدراسي الجامعي »2591 3591«، قام اللواء محمد نجيب بأول زيارة لجامعة القاهرة عقب ثورة يوليو وعندما قابله الطلاب بالهتاف: »الدستور أساس الحكم«.. حاول أعضاء جماعة الإخوان الاعتداء علي جماهير الطلاب بسبب معارضتهم لهذا الهتاف. كما كان الإخوان من أشد معارضي الحزبية والأحزاب السياسية ووقفوا إلي جانب حكومات ديكتاتورية ضد الأغلبية الشعبية.. انهم يغيرون مواقفهم بصورة مستمرة.. والمعيار الأوحد هو: ما الذي يجعلهم أقرب إلي السلطة. وفي الحاضر.. اعلن الإخوان انهم سيرشحون علي مقاعد البرلمان بنسبة 03 في المائة ثم رفعوا النسبة إلي أربعين ثم خمسين..، وبعدها.. قاموا بالترشيح علي كل المقاعد. وقالوا إنهم سميتنعون عن رفع شعارات دينية.. فإذا بكل شعاراتهم.. دينية ووعدوا بحظر الدعاية الانتخابية في دور العبادة، ولكنهم لم ينفذوا وعدهم.. وتحدثوا عن »المشاركة« ثم قاموا بالسيطرة علي لجان مجلس الشعب. وقالوا إنهم يساندون المجلس العسكري ثم هاجموه. وقالوا إنهم ليسوا ضد حكومة الدكتور كمال الجنزوري ثم هاجموها وطالبوا بسحب الثقة منها. وقالوا إنهم مع نسبة اربعين في المائة من داخل البرلمان لعضوية الجمعية التأسيسية ثم رفعوا النسبة إلي خمسين! وقالوا إنهم يرفضون مبدئياًً أن يكون لهم مرشح للرئاسة. ثم أكدوا انهم يرفضون حتي مجرد تأييد »مرشح إسلامي«، ثم اعلنوا عن ترشيح الإخواني خيرت الشاطر للرئاسة! هكذا انتهت جماعة الإخوان إلي التوجه لإقافة »دولة رجال الأعمال« علي حد تعبير الخبير الاقتصادي أحمد سليم ويقول الدكتور محمد حبيب، النائب السابق لمرشد الإخوان، انه يرفض خيرت الشاطر، لأنه لا يريد أن يكون علي رأس الدولة »تاجر« يعرف كيف يستثمر فلوس الإخوان، وهي صفة لا تؤهله أن يكون الرئيس، ويبدو أن الامبراطورية المالية والاقتصادية لمجموعة »أحمد عز« وبامتداداتها الخارجية ستعود في ثوب آخر. وبصرف النظر عما اذا كان ترشيح خيرت الشاطر هو بمثابة ورقة ضغط علي المجلس العسكري من أجل الحصول علي موقع رئيس الحكومة وتشكيل حكومة إخوانية سلفية، أو عملية ابتزاز لتمرير ما تريده الجماعة من حرية التصرف في الدستور علي النحو الذي تشتهيه دون ازعاج من أحد.. فإن المؤكد أن الإخوان يغيرون مواقفهم، كما يغيرون ملابسهم، وأن محور حركتهم ومواقفهم وقراراتهم هو السعي إلي احتكار كل موقع السلطة: رئاسة مجلس الشعب رئاسة مجلس الشوري رئاسة الحكومة رئاسة الجمهورية. وجاء توقيت الاعلان عن تقديم مرشح إخواني للرئاسة في وقت تتعرض فيه الجماعة لخسائر سياسية فادحة علي المستوي الشعبي، خاصة بعد فضيحة تشكيل الجمعية التأسيسية.. وظهور خطر دستور »وهابي« يقوض جذور الوطنية المصرية. وأصبح الآن واجب كل من لا يزال حريصا علي شعارات ثورة 52 يناير، وعلي مستقبل هذا البلد أن يمسك بالحلقة الرئيسية في معركة الديمقراطية، وهي »الجمعية التأسيسية«، لأن الأغلبيات زائلة.. والرؤساء ليسوا مخلدين.. أما الدستور فإنه طوق النجاة للشعب والوطن ولا يحتمل أي تنازل من جانب القوي السياسية لأعداء الدولة المدنية.. ومن هنا، فإنه يجب اعتبار الجمعية التأسيسية »الرسمية« الحالية.. غير شرعية ورفض كل ما يصدر عنها. كلمة السر: دستور لمصر كلها، وليس دستور الإخوان!