مللت من العجب والتعجب والاندهاش والدهشة، مللت من الكتابة والحديث بشأن ما وصلنا اليه من اوضاع مهترأة، مللت من اللغو والحشو والكلام العبيط، مللت من الاكاذيب والمبالغات والافتراءات والاحباطات التي تطاردنا بها الصحف والفضائيات الهبلة، مللت ممن كنت اعتقد انهم اصدقاء لم اجد فيهم صدقا وخيرا، لم اجد فيهم عدلا، وتقديرا، وألفة ورحمة ! منذ نعومة اظافرها وهي تعشق الحيوانات الاليفة، مارست علي كل الضغوط الطفولية لكي اجلب لها واحدا منها، لكني لم اهتز امام بكاء لها أو خصام منها، كبرت، تخرجت في الجامعة، مارست علي خطيبها ما كانت تمارسه علي من ضغوط، دخلا علينا ذات مساء وهما يحملان جروا ابيض " لولو "، قبل ان افتح فمي بكلمة، قالت انه سيبقي ضيفا علينا ثم ينتقل معها لبيتها عندما تزف لعريسها، كبر " بيلي " بسرعة وصارت بيننا وبينه الفة، يوم زفافها عدنا للبيت، اكتشف ان صاحبته لم تعد معنا، ظل طوال الليل جالسا خلف باب الشقة منتظر قدومها، في اليوم التالي ظل يبحث عنها في كل ارجاء الشقة، أختبأ اسفل سريرها يبكي بعواء لا ينقطع، ظل ليومين لا يقترب الطعام أو الماء، ينظر لنا بحزن شديد وكأنه يسألنا عن صاحبته، سكن فوق سريرها لا يبرحه إلا لقضاء حاجته، اسمعته صوتها عبر المحمول، تنبه، أخذ ينبح وهو يهز ذيله، كلما نادته باسمه عبر الهاتف كلما حرك ذيله كالمروحة، بعدها اقبل علي الطعام بشراهة ونهم، كنت اتابعه بعجب وتعجب وانا اردد " سبحان الله .. يا لهذا الوفاء الذي لم اجد له مثيلا عند الكثير من بني الانسان "، جاءت بعد شهر العسل، اقسم بالله ان ما شاهدته من عناق بينهما يعجز الخيال عن وصفه، لقد رأيت الدموع تنساب من عينيه وهو يتراقص حولها منافسا لراقصات الباليه ! روي لي صديق من علماء الاحياء بالسودان انه عثر علي كلب اصيب بكسر في إحدي قوائمه فحمله إلي عيادته وقام بمعالجته، عندما تماثل للشفاء أطلق سراحه، بعد اسابيع سمع نباح كلب امام باب عيادته، فتح الباب ليجد امامه الكلب الذي عالجه برفقته كلب آخر مصاب، يا سبحان الله من الذي ألهم الكلب الذكاء وحسن التصرف ؟، من الذي زرع في قلبه الرحمة التي تصرف بها غريزيا لإنقاذ واحد من بني فصيلته ؟، من الذي زرع فيه روح التكافل والشفقة ؟ أليس هو الله جلَّ جلاله . يا بني الانسان تأمل وتعلم، يا من تستقوي علي الضعيف بالسطوة والسلطة، يا من تغتر بالمال والجاه وتظلم غيرك دون ان تهتز في رأسك شعرة، يا من ينسيك غرورك من فعلوا بك خيرا، يا من لا تفي لغيرك وتؤذي مشاعر من هو اكبر منك، تذكر اذا ما زالت من وجهك النعمة، وزال سلطانك، وانتهي مالك وجاهك، ستعرف وقتها طعم المرارة والانكسار والمذلة، ستدرك معني ان ينفض الكل من حولك، فلا تجد منهم واحدا رفعته، ربما تجد العطف من اصيل ظلمته، ستدرك وقتها ان الكلب الذي اطعمته، وفيا لك أكثر من الخسيس الذي اكرمته ! التقيته منذ اسبوعين جالسا مع بقية الاصدقاء علي نفس المنضدة التي تجمعنا بكافيه ريش، استقبلني بابتسامته المعتادة، سألني عن المخاوف التي تحيط بالصحفيين بشأن ما يتم تسريبه من تصريحات توحي بخطة غير معلنة لدي الحكام الجدد لخصخصة الصحف القومية تحت مسمي اعادة الهيكلة، لم يطل الحوار، ولن يتجدد، فقد غادرنا الكاتب الصحفي الكبير ماهر الدهبي إلي عالم النقاء، تاركا وراءه عالم النفاق والشقاء، رحمه الله وخالص العزاء للأسرة الصحفية .