بعض الخلاف بيننا وممارسات التشكيلات السياسية الثورية في مصر لا يمنعنا من الموافقة والمصادقة علي أهمية الأفكار التي ذاعت وشاعت مؤخرا عن دعوة الدكتور محمد البرادعي وعدد من المفكرين والاعلاميين ونواب البرلمان حول اقامة كيان سياسي جديد يأخذ صيغة الالتفاف حول ما نيفستو (برنامج)، أو شكل التبلور في حزب أو أي هيكل آخر ينضوي تحت لوائه عدد كبير من ائتلافات ثورة يناير. ومبعث ارتياحنا لنشأة ذلك الكيان هو أنه جاء استجابة (ولو أنها متأخرة) لنداء كل القوي الوطنية والشعبية بهندسة وبناء تشكيل موحد يضم كل أو معظم الفصائل الثورية النشطة علي الساحة انطلاقا من الاحتياجات الوطنية التالية: أولا: أخبرتنا التجربة العملية أن الخريطة السياسية في مصر، وبالذات في الانتخابات البرلمانية الفائتة. لم تكن مطابقة للواقع الجديد الذي يفترض أن الثورة أنتجته، وخلت تقريبا من أسماء وعناصر كان لها أدوار مشهودة في اندلاع أحداث يناير، بعبارة أخري رأي البعض أن البرلمان الجديد بصرف النظر عن الأدوات الديمقراطية التي أفضت إلي تشكيله وعلي رأسها الانتخابات لا يمثل من وجهة نظرهم، كل الأطياف الفاعلة في المجتمع المصري. والحقيقة أن جزءا كبيرا من منطق النظر الي البرلمان بذاك الشكل أتي قولا واحدا نتاجا لانسحاب ائتلافات الثورة من بناء أحزاب حقيقية تعمل وسط الناس، وتخوض المعترك الانتخابي علي برامج واضحة يدركها الكافة، فيما تحرك التيار الديني وسط المجتمع التصويتي بكفاءة، وبني صيغة حركة تعتمد تقديم الخدمات المباشرة للناس وتدعيم جسور الثقة معهم علي نحو كان تأثيره واضحا في اتجاهات التصويت. وبناء عليه.. توالت مناشدات لقوي الثورة ان تشكل احزابها، وعلي رأس هاتيك المناشدات كان ما خاطب به القائد العام للقوات المسلحة رئيس المجلس الأعلي شباب الثوار، مطالبا بتشكيل أحزاب لهم تؤدي دورها في ساحة العمل السياسي، وفي صناعة وصياغة المستقبل. ثانيا: كما أخبرتنا التجربة ان ضرورة تلبية الاحتياج الوطني في انشاء تكوين سياسي موحد لمعظم الائتلافات الثورية، جاءت من تقويض احتمالات الحوار بين الثوار وهياكل السلطة وعمدها الرئيسية مثل المجلس الاعلي للقوات المسلحة، أو مع بعض أفراد ومسئولي السلطتين المدنية والعسكرية، وحتي مع جماهير الشعب في تجمعاتها متنوعة الدرجة والمستوي، بحجة أن المحاورين الذين يدعون تمثيل الثورة ليسوا هم الثوار الحقيقيين، ودخلنا لمرات في اشكاليات متشابهات متكررات، فلم نعد نعرف بالضبط من الذي يمثل الثوار (رغم تعرفنا من خلال المتابعات الاعلامية علي بعض شخوصهم وأسمائهم إلا أن انكار زملائهم لهم أوقعنا في دائرة من عدم اليقين أسلمت الحوار إلي دائرة من عدم الامكان). ظهور كيان أو تشكيل موحد للثوار فيه لون من التيسير الكبير للحوار معهم، اذ لم يعد ممكنا الاستمرار في لعبة الحوار مع أطراف شبحية ليس هناك تأكيد لتمثيلها من تدعي أنها تمثلهم. ولكنني قبلما أغادر هذه النقطة أتحفظ بعض الشيء علي مقولات الدكتور محمد البرادعي التي توميء إلي أنه لم يستقر بعد مع الكوكبة التي يتحاور معها في ذلك الشأن علي الشكل الذي سيأخذه التكوين الجديد المزمع إطلاقه، وهل سيكون برنامجا، أو جبهة، أو هيكلا يقوم بالضغط علي البرلمان والجيش (في مجلسه العسكري) لتحقيق أهداف الثورة.. إذ أنه بشكل نهائي لا يمكن تفعيل الآلية التي يشير اليها الدكتور البرادعي (الضغط من أجل تلبية المطالب) الا من خلال كيان حزبي يدخل الي الانتخابات ويتحصل تأييدا موثقا، وترخيصا شعبيا حقيقيا يمكنه بواسطته ان يضغط بشرعية، ويلزم الآخرين عبر تلك الشرعية، أما فكرة جماعة الضغطpressure-group فليس لها دليل ثبوت علي مساندة الناس لها، ومن ثم لن تقدر علي الحديث باسمهم، وساعتها سينظر المجتمع السياسي إليها علي أنها مجرد (جماعة مصالح) ترتبط برؤي ومصالح الزمرة، ولا تعبر كامل التعبير إلا عن أعضائها فحسب. ونحن لا نتصور ولا نريد أن يتحول الثوار الي جماعة ضغط أو جماعة مصالح منفصلتين عن قاعدة شعبية شاملة وحقيقية يمكن التأكد من وجودها، ولكننا نبغي أن يكون الثوار حزبا وطرفا فاعلا يدخل ساحة التمثيل من باب الانتخابات ويسهمون في دفع مؤسسات الدولة نحو ما يرونه أهدافا للثورة، مسلحين بإلزامية سلطة الشعب الذي انتخبهم، اما الاعتصام دائما بصيغ كيانات غير منتخبة، فهو يحرم الثوار من الادعاء بأنهم يمثلون الجماهير في نطاقاتها الواسعة. ثالثا: وأخيرا فإن التجربة علمتنا ان الشعب شبع وبشم من نخبويات النخبة التي تحتكر الاضواء والاعلام والظهور لنفسها، ولا تتوقف عن الثرثرة والتنظير والتقعير من دون علاقة حقيقية بملح الارض، وفقراء الناس. الاصل أن تكون هناك تشكيلات حزبية تتحرك وسط الناس لتستمع الي مطالبهم (وكنت سمعت في بريطانيا عام 7991 علي لسان الوزير المحافظ بيتر ليلي وقت زعامة وليم هيج لحزب المحافظين وهو وزير الخارجية الحالي تعبير الانصات الي الامة Listen-to-the-nation، وكان عنوان برنامج الحزب للتعرف علي مطالب الشعب ليبدأ ذلك الحزب ما أسماه (fresh-start) أو البداية الطازجة بعد هزيمته في الانتخابات.. وأعود بعد ذلك الاستطراد البريطاني فأقول أن وظيفة الحزب هي العمل وسط الناس، والإنصات لهم وان يظل علي تلك العلاقة ولو وصل الي الحكم، إذ لا يجوز أن يتحول الحزب الحاكم أيا كان إلي طبقة حاكمة منعزلة عن الناس. بتلك المعاني تبرز أهمية التشكيل الحزبي لأية قوة سياسية تطرح نفسها في الاختبار اليومي الديمقراطي الذي يستهدف اجابتها علي أسئلة الناس ومطالبهم، والا انفضوا عنها، ولم تعد تمثل الا رموزها ونجومها السابحين في أضواء ستوديوهات القنوات الفضائية. نعم.. كان لابد من نشأة حزب يلتئم فيه الثوار ليمارسوا عملا سياسيا واجتماعيا وثقافيا حقيقيا وسط الناس وعلي أساس برامجي، وليخضعوا لمحاسبة أولئك الناس حين يصلوا الي مقاعد تمثيلهم في البرلمان أو غيره من المجالس الشعبية والمنتخبة. نحن نريد ان نعرف أولنا من آخرنا، ولا نتعامل مع هلاميات تدعي الإنتساب للناس من دون علاقة بهم.. الثورة هي حركة الناس للتغيير، ولا ينبغي أن يقول أحد أنه وكيل الناس أو نائبهم في ذلك التغيير من دون أن يكون منهم ووسطهم ويعمل من أجلهم بالفعل.. وهنا تبرز ضرورة تشكيل حزب لائتلافات الثورة لكي يكون معروضا بوضوح علي الناس، ومتحدثا باسم كتلة مويديه الذين ثبت تأييدهم له في صناديق الانتخاب. ................ كانت تلك هي الاحتياجات الوطنية التي فرضت علينا الترحيب بالمحاولة الجديدة للدكتور محمد البرادعي التي تستهدف مأسسة الثورة أو هندستها حزبيا.. فإذا نجح سوف يكون نجاحه فعلا جديرا بكل احتفال!