ليس عندي من التخمينات والاستنتاجات ما يدفعني إلي تصديق تلك الابتسامات المصاحبة لمشاعر الارتياح التي ارتسمت علي ملامح الجنرال مارتن ديمسبي رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة إبان اجتماعه مع القائد العام المصري رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة المشير طنطاوي، ورئيس الأركان الفريق سامي عنان، وعددمن القادة المصريين يوم السبت الماضي.. إذ أن أسماء بارزة في الساحة السياسية الأمريكية مارست ومازالت ضغوطا حقيقية وغير مسبوقة علي القاهرة إبان أزمة احالة المتهمين في قضايا النشاطات السياسية الممولة أمريكيا إلي الجنايات، وكانت هاتيك الضغوطات علانية وعلي قارعة الطريق، ومن ثم يمكن تخيل ما يدور في غرف المباحثات وراء الأبواب المغلقة علي أنه بالقطع ضغط أكثر شدة وضراوة، وقد أكد ديمبسي (في الطائرة للصحفيين الأمريكيين أثناء عودته) أن لقاءه بالمشير والفريق كان صعبا ولكنه كان صريحا في الوقت نفسه، وان عملا كان مطلوبا لإزالة التوتر بعد أزمة تمويل المنظمات غير الحكومية المتهم فيها 34 شخصا بينهم 91 أمريكيا. وعلي نحو وجيز أطرح هنا مجموعة من النقاط عن أسباب تصوري للأزمة علي أنها قابلة للامتداد والتطور رغم كل محاولات التلطيف من جانب ديمبسي والمترافقة مع ابتسامات وزعها أمام الكاميرات مع أعضاء وفد البنتاجون الأمريكي قبيل إغلاق الأبواب. أولا: إن تقدير الولاياتالمتحدةالأمريكية للعلاقات مع القاهرة (كما أفصحت عنه تصريحات المسئولين في الكونجرس والخارجية) يبدو وليد خطأ منهجي كبير في فهم منظومة المصالح المتبادلة بين البلدين، فهناك بداية مبالغة أمريكية هائلة في وزن وأرجحية مسألة المعونة، لا بل وهناك كثير من المعايرة قليلة الحياء التي يصور فيها الأمريكان مصر، وكأنها دولة متسولة لا بديل أمامها سوي بناء جيشها من ذلك السلاح الذي تزخر به مخازن سلاح حلف الناتو، ومنه بالذات. وأكثر من ذلك فقد بدا من عدة قرائن وليس شواهد، أن واشنطن باتت تفهم تلك المعونة العسكرية علي أنها وسيلة لتعظيم ضغوطها علي مصر متي شاءت التضاغط، معتمدة علي ثقافة بعض النخب المصرية والتي تقوم علي عدم تحبيذ التناطح مع أمريكا رأسا برأس متي شئنا التناطح أو شعرنا انه واجبنا. والحقيقة ان أمورا عديدة في هذا السياق ينبغي أن تقر في أذهان الأمريكان منها أننا لا نتحصل معوناتهم مجانا، وإنما تتحصل الولاياتالمتحدة ثمنها باستخدامها الممرات الجوية فوق مصر، وبعبور سفنها النووية لقناة السويس، لا بل ولدخول أية قطع بحرية أمريكية للقناة دون الالتزام بقوائم انتظار أو أولويات مرور. لا بل ولم تك مناورات النجم الساطع التي تجري (سنويا) لصالح مصر ودول المنطقة المشاركة، وإنما لصالح تدريب الجيش الأمريكي كذلك في بيئات ومناخات الشرق الأوسط، يعني هم كذلك مستفيدون، ومن هنا أفهم استعجال ديمبسي لاستئناف المناورات التي توقفت في العام الماضي بسبب أحداث ثورة يناير المجيدة.. إذ يبدو أن ديمبسي لم يتلق ردودا مصرية شافية فاقتصر علي الكلام عن آماله في الاستئناف، وهذا يعطينا كذلك فكرة عن جو المحادثات وراء الأبواب المغلقة. ثانيا: حجم المؤامرة الأمريكية علي مصر كما تكشف في الشهور الأخيرة (وأنا أحب أن يوصف كلامي هنا بأنه تآمري، إذ في ذلك اشارة إلي بلاغته ودقته فيما صيغ لوصفه من موصوفات!!)، وقد أومأت السيدة فايزة أبوالنجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي إلي أن أمريكا استخدمت التمويل السياسي لخلق واستمرار الفوضي، واجهاض ثورة يناير، وهو ما يعد أخطر توصيف علني من جانب الإدارة المصرية في شأن تقرير حالة العلاقات المصرية الأمريكية في اللحظة الراهنة، كما انه وصم بالإدانة لا يحتمل لجاجا أو مفاصلة للتآمر الأمريكي علي بلدنا، ويبدو أن القادة المصريين واجهوا ديمبسي بصلابة لم يتوقعها حول تلك المسألة، وراء الأبواب المغلقة، وبما دفعه إلي محاولة طرح موضوع محاكمات التمويل الأجنبي مصبوغا بما يخالف لونه الأصلي تحت عنوان: (حرية الفرد وما إذا كانت مصر تريد الانعزال عن العالم وتقيد حرية الفرد) فيما الملف كله ذي طبيعة قانونية بحتة لا تسمح لرئيس الأركان ديمبسي، ولا السفيرة الأمريكية باترسون، ولا أي من المسئولين الأمريكيين وراء البحار مناقشته، حتي ولو كان يخص عددا من المواطنين الأمريكان تورطوا فيما يتقاطع مع محددات الأمن القومي المصري، أو يتماس مع دوائره، كما ان تغيير مداخل طرح ذلك الملف تحت شعارات مفتعلة عن حرية الفرد يدخل في نطاق (الهرتلة السياسية) وهو محاولة لتغيير صفة القضية والملف لا يمكن تفسيرها إلا أنها جاءت نتيجة صدود عسكري مصري خلف الأبواب المغلقة، يرفض التدخل في المسار القانوني للقضية. ثالثا: في سلسلة من الافتاءات اللافتة للنظر حاول ديمبسي رسم صورة زائفة لما جري خلف الأبواب المغلقة، فتحدث مثلا عن ان الجيش المصري متلهف لترك الحكم ملتزما بالجدول الزمني للانتخابات البرلمانية، ووضع الدستور، وانتخاب رئيس الجمهورية، ثم يعود ليقول ان تبعية الجيش لسلطة مدنية لن تكون سهلة. الرجل في تلك الجزئية يعطي احساسا بأن واشنطن تباشرنا أو تتابعنا مثل خولي الزراعة، وهو ما يناقض المناخ الذي جرت فيه تلك المباحثات الأخيرة، والذي فوجئت واشنطن فيه بنوع من ردود الأفعال المصرية لم تواجهه من قبل، وبما يثبت أن مصر دولة مؤسسات تحافظ علي كبريائها الوطني، وتحترم سيادة القانون، وهو ما يعني بالتبعية التزامها بالديمقراطية، أما الذي تسعي إليه واشنطن لاستثناء مواطنيها من سلطة القانون المصري، أو تخلي القاهرة عن واجبها في حماية محددات الأمن القومي، وترك البلد كمولد غاب صاحبه، فهو بالقطع لا يمثل الديمقراطية في أية ترجمة، وإنما يعني تعميد الفوضي كأمر واقع، وتأكيد التبعية كثقافة سائدة. في زيارة ديمبسي التي حفلت بمحاولات الضغط علي مصر، وكذلك تنويع اللهجة بين اللين والتشدد وملامح الوجوه بين العبوس والانفراج، سقط أيضا قول خاطئ حرص الأمريكان دائما علي إشاعته وإذاعته وهو أن الكونجرس ربما يتشدد مع مصر، ولكن البنتاجون والبيت الأبيض دائما معها.. وهذا قول لا معني له، إذ ما هي صلة القرابة بيننا وبعض المؤسسات الأمريكية التي تدفعها لمساندتنا؟ ان الإدارة الأمريكية هي كل غير مجزأ في الخارجية والبيت الأبيض والدفاع، والمخابرات، ومستشارية الأمن القومي، لا بل بمراكز البحوث وبيوت التفكير المغذية لصانع القرار الأمريكي عبر ما تقدمه من خيارات وسيناريوهات، ومن ثم يأتي تخديرنا وتنويمنا لنأنس إلي تصور ان بعض المؤسسات الأمريكية تساندنا زائفا من ألفه إلي يائه. الشهور الماضية أثبتت التآمر الأمريكي، وضبطنا فيها واشنطن متلبسة بيدين مخضبتين بالدماء تحاولان التحريض علي اطاحة الدولة المصرية وتفكيك مؤسساتها عبر استخدام الخلايا النائمة التي تدربت طويلا علي اشاعة الفوضي في البلد، والتي كان لواشنطن اليد الأساسية في تشكيلها وهندستها وتحريضها وتحريكها، وفي صياغة المشهد الكارثي الذي نعيشه الآن. وبيقين فإن ديمبسي استمع وراء الأبواب المغلقة إلي أشياء من هذا دفعته لأن ينخرط في ثرثرة طويلة بعد خروجه يحاول فيها أن يبدو مشرفا علي الأحوال، ومتفقدا عزبته وهو يتكلم عن السلطة المدنية، والإدارة العسكرية، ويبشر بصعوبات قادمة سوف تعترض طريق مصر في هذا المجال. ولكن النداء الذي استمع إليه رئيس الأركان الأمريكي في النهاية داخل الغرف المغلقة وخارجها كان الحفاظ علي استقلالية البلد مع ترك السيد ديمبسي يواصل الثرثرة فيما لا يخصه.. ففي مصر جيش يحكم وبرلمان يشرع ولهما فقط ينبغي الاستماع!