[email protected] هكذا هي دولة الأيام بين جديد يبزغ فيفرض حضوره وشبابه ويتبوأ مكانه، وبين قديم يتواري ويخلي مواقعه للوافد الذي يفي بضرورات المرحلة ومستجدات العصر وتحدياته، وبما يستجيب لآمال الشعب وطموحاته، ذلك هو مظهر الحداثة والمعاصرة والتجدد في الدول الديمقراطية والتي تؤمن أن لكل وقت أذانه ولكل عصر رجاله وأفكاره وقضاياه وأبطاله، الأمر الذي نصر علي خصامه في بلادنا المحروسة. وهكذا دائما ماشكلت السياسة في مصر استثناء يصعب القياس عليه، فلا أنت محقق طموحات النخبة ولا الناس راضون عما تقدم وتجتهد ولا يزالون يتعجلون النتائج. وأصبح حديث الشارع أننا لا نري قديماً يبرح مقاعده ولا جديداً يتقدم وإنما هي عناوين مشوشة، أوراق تختلط ومواقف تتداخل وأفكار تلتبس وقضايا تهمش، وكأن المحصلة هو قبض الريح أو اللاشيء ، وكأننا نستفز الناس ونسخر من تطلعاتهم وأشواقهم للإصلاح والتغيير. وبدا سؤال يتردد عمن عساه يكون "سارق الفرح" ذلك الذي يحيل أفراح الناس أحزاناً ويصر علي الإساءة للتجربة كلها، وإعادة عقارب الساعة للوراء. هل هذا مقصود ومتعمد لإحراج أحد بعينه أو التشكيك في توجهات الإصلاح والفكر الجديد، أوهي تداعيات إفلاس حكومي وتدني قدرات وترهل أداء كما الدبة التي قتلت صاحبها؟. أقول هذا وقد طالعت علي التو حوار الأخبار مع د.حسام بدراوي عضو المجلس الأعلي للسياسات وواحد من مفكري مصر وخبرائها، يحمل هموم التحديث والنهضة في أهم ملفاتها وهو التعليم والبحث العلمي، الكلام علي أهميته وقدرة صاحبه علي التحليل والتوصيف والنفاذ إلي عمق مشكلاتنا ووضوح رؤيته لمشروع الإصلاح في محاذيره وطموحاته، إلا أنه كلام قاله حسام بدراوي وأخذت به أمانة السياسات في أهم أدبياتها وتوصياتها، ومنذ سنوات نجتر نفس الأفكار ونفس الأحلام، بينما يأتي الواقع مخيباً لكل الآمال مع تنفيذ حكومي ينزع للبطء والتحفظ أحياناً والتردد معظم الأحيان وتدفع التجربة ثمناً غالياً لهذا التردد وهذا الأداء الباهت. وهنا تبدو الأسئلة مراوغة والاتهامات جاهزة بأنها مرحلة بلا أفعال ولا أبطال وأن البطل الوحيد الذي فرض نفسه علي الأحداث والساحة هواللاشئ أو تاج الجزيرة.. السلطانية.. وللسلطانية قصة مسلية وموحية بطلها هو معروف العتيقي صاحب السلطانية، الفكرة والدلالة. كان معروف العتيقي مثالا لما نسميه الآن الطبقة الوسطي. لم يكن في سعة من الرزق ورغمها كان قانعاً راضياً يتطلع بتفاؤل وأمل إلي مستقبل أفضل لأبنائه، يجمعهم بعد العشاء ليحكي لهم عن مأثور القول وجليل الأعمال في تراثنا الفكري والشعبي. يحكي لهم عن الشاطر حسن وذات الهمة وأبو فراس الحمداني و زرقاء اليمامة وزنوبيا ملكة تدمر وحكايا ألف ليلة وليلة وأبو زيد الهلالي وجلجامش والإلياذة وهوميروس والأوديسة، ويعرج إلي الموطأ لمالك وديوان الشعر العربي والحافظ لابن كثير والمويلحي وابن هشام والجاحظ، لم يكن يقصد تسلية الصبيان والبنات وإدخال البهجة علي نفوسهم فحسب وإنما كان عامداً لتوسيع مداركهم وتنوير أفكارهم. كان يعلم أن شديد الفقر لا يحاربه إلا غزير العلم، وأن ضيق الجهل وظلامه لايقاومه إلا سعة الأفق ونور الفكر واستقامة العقل. من هنا كان حرصه علي أن يعوض ما فاته في أولاده وبناته. كان لمعروف محل بسيط ورثه أباً عن جد يتكسب منه القروش القليلة التي لم تكن أبدا تقارن بما تدره الوكالة الواسعة لجاره الحاج محمد الحرايري تاجر الأقمشة ومستوردها. ولأن المال دائما ما يسعي إلي زواج السلطة فقد كان لمحمد الحرايري سلطة كبيرة وحظوة لدي شهبندر التجار ورئيس العسس وساري عسكر السلطان ذات نفسه. ولأن الحرايري كان قد ضاق ذرعاً باحترام الناس وتقديرهم لمعروف فقد قرر أن يحاربه، فوشي به عند الكبار والسلطة وأخرجه من مجلس الحارة والمدق الذي كان رئيسه، وكذا أبعده عن أمانة صندوق خراج المسجد الكبير في "التمن" ولم يترك ذلك كله في صدر معروف أي ضغينة ضد أحد، فهو يعرف أن قيمته في ذاته لا في منصب أو مجلس أو جاه وربما علي ذلك حسده الآخرون وحقدوا عليه، وكاد له الذين في قلوبهم مرض. ذات صباح هم بدخول السوق وإذا بالفتوات والعسس والخباصين قد اجتمعوا في انتظاره يتقدمهم الحرايري وقد تأبط شراً، ذلك أن قانون الثروة وتسلطها ألا ينازعها في السلطة أحد حتي ولو كانت سلطة أدبية أو فكرية. وهنا فطن معروف لما عساه يحاك له وضده وأمثاله من المستورين المستنيرين من أبناء المحروسة "الطبقة الوسطي". والتمعت في رأسه فكرة طالما شجعه عليها شيخه القديم ومربيه "ألا حيلة في رزق ولا شفاعة في موت" وأن بلاد الله واسعة "ورب هنا رب هناك" فهو الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد. أوصي زوجته بالعيال وخرج قاصداً باب الكريم. صعد علي ظهر أول مركب قابلته، لم يكن يحمل معه إلا عزم الرجال و"السلطانية" التي كان قد حملها ليشتري فيها الفول طعاماً لأولاده. معروف علي المركب "بلاد تشيل وبلاد تحط" وإذا بالبحر يعاند وتنقلب أحواله. تغرق المركب ويلقي معروف بنفسه إلي اليم بعد أن توكل علي الله وحزم شال العمامة علي السلطانية فوق رأسه وتشبث بلوح خشبي، ولم يفق إلا وهو علي جزيرة صغيرة يتحلق حوله رجال شداد لا يسترهم إلا وريقات الأشجار، ضربوا رماحهم حوله وحملوا سهامهم إلي صدره، وسألوه "عدو ولا حبيب"، ولمعت عيناه بالفكرة وتوجه إلي كبيرهم متذرعاً بغرق المركب والرجال، لكنه مع ذلك أحضر له كل ما يملك من حطام الدنيا، وفك شال العمامة ووضع بين يديه "السلطانية". وهنا صفق الرجال وهتفوا له ولم يصدق كبيرهم نفسه وأمسك بالسلطانية قائلاً "التاج..التاج" إنه تاج الجزيرة. أخذوا معروف وأقاموا له الأفراح والليالي الملاح ذلك أنهم في جزيرة الأمل وجبالها السبع في بحر الظلمات طالما حلموا بأن يكون علي رأس زعيمهم تاج جميل براق وها هو معروف وقد حقق أمانيهم. وبعد أيام الضيافة استأذن معروف في الرحيل فجهزوا له مركباً محملاً بالهدايا والياقوت والزبرجد والمرجان والذهب. عاد لأولاده محملاً بخيرات الله. وتواترت أخباره، حتي وصلت للحرايري وشهبندر التجار وكبار الكبار الذين لم يترددوا في زيارته والتودد إليه. وحده الحرايري الذي حرص أن يسأله كيف حصل كل هذه الثروة. ولم تكن من عادة معروف الكذب فقص علي صاحبه اللدود وحاسده بما كان من أمر السلطانية. ولأن الحرايري جبل علي الاستحواذ والجشع والمغامرة فقد جهز المراكب بالحرير والسندس وحملها أطايب ما تشتهيه الأنفس، وأنفق كل ماله في الهدايا والعطايا التي حملها إلي سلطان جزيرة الأمل في بحر الظلمات الذي بهرته الهدايا والعطايا وأقام حفلاً كبيراً لضيفه الكبير قبل سفره عائداً إلي أرض المحروسة. ذهب الحرايري لحضور الحفل متطلعاً إلي الهدايا ومراكب الذهب واللؤلؤ التي عساه يعود بها، وإذا بالسلطان يعلن: لم نجد أمام كرمك وعظيم صنيعك معنا أعز من تاج الجزيرة نهديه إليك عرفاناً وتقديراً.. قدم له التاج، والتاع صاحبنا وطار صوابه والتاث عقله وطفق يصرخ.. تاج الجزيرة.. السلطانية. ذلك أن الطمع يقل ما جمع، وها هو أخيراً لا يجني إلا بقايا متاع معروف في رحلة التحول والفتوح. وللجميع نقول لا تتعجلوا النتائج فأبدً لن يحمل لنا قابل الأيام إلا كل خير، وأبداً لن يكون حصادنا تاج الجزيرة ..السلطانية، مادمنا نعمل ونراجع ونجتهد ونحتفي بمعروف، نرعاه وننصفه ونراجع الحرايري، نعلمه ونصلحه، وهكذا هي السياسة.