فتح باب التظلمات للطلاب الغير ناجحين بإمتحانات القبول بمدارس التمريض بقنا    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أسعار النفط تتجه لإنهاء موجة خسائر استمرت أسبوعين مع تعثر جهود السلام في أوكرانيا    جوتيريش: المجاعة في غزة فشل للإنسانية نفسها    كندا تلغي الرسوم الجمركية الانتقامية على منتجات أمريكية وتُبقي على الصلب والسيارات    باريس سان جيرمان يواصل انتصاراته في الدوري الفرنسي بفوز صعب على أنجيه    معلق مباراة برشلونة وليفانتي في الدوري الإسباني    تعرف على نتائج مباريات اليوم في افتتاح الجولة الأولى بدوري المحترفين    موعد إقامة قرعة بطولة كأس العالم 2026 لكرة القدم    حادث مروع أعلى الطريق الأوسطي بالشيخ زايد يسفر عن مصرع واصابة 13 شخصًا    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    القضاء يسدل الستار على قضية توربينى البحيرة.. تفاصيل حكم جنايات دمنهور بإعدام صاحب كشك بكفر الدوار بتهمة الاعتداء على 3 أطفال وتصويرهم بهدف الابتزاز.. رئيس المحكمة يطالب الأهالى برعاية أولادهم    رئيس نقابة السكة الحديد: يقظة خفير مزلقان بني سويف أنقذت شابًا من موت محقق    «ويجز» يضيء ليالى مهرجان العلمين الجديدة    شقيق شيرين عبد الوهاب يعلق على أنباء عودتها لحسام حبيب    مصدر أمني ينفي شائعات إخوانية بشأن وجود انتهاكات بمركز للإصلاح والتأهيل    رابطة الأندية تعلن تعديل مواعيد وملاعب 7 مباريات في الدوري    السفير حسام زكي: التحركات الإسرائيلية في غزة مرفوضة وتعيدنا إلى ما قبل 2005    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    مستقبل الدور الفرنسي في إفريقيا بين الشراكة والقطيعة    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    بادشاه لسعد القرش.. قصص فلسفية شاعرية تشتبك مع القضايا الكبرى    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    حماس: تصريحات كاتس «اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي»    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    ضبط ورشة بها 196 قطعة سلاح في الشرابية    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    ضبط 400 قضية مخدرات وتنفيذ 83 ألف حكم قضائي خلال يوم    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    ضبط المتهمين بالتسول واستغلال الأطفال أسفل كوبري بالجيزة    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطعم القردة الحية
نشر في الأخبار يوم 06 - 04 - 2010


بقلم :
د. محمد
السعدني
[email protected]
أذكر أنني كتبت ذات مرة عن رجال الدبلوماسية الغربية أنهم إثنان، أحدهما يبدأ في حواره معك برفض البديهيات والمسلمات، فهو يختلف ومنذ البداية علي أن واحد زائد واحد يساوي إثنان ويحاول إقناعك بأنهما يساويان ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أي رقم أخر الإ الإثنين، ذلك أنه في معرض حديثه يأخذك في تأملاته وتقولاته وادعاءاته بأن الواحد الأول ليس بالضرورة هونفسة الواحد الثاني فربما كلاهما مختلف في النوع والمعني والدلالة، ومن هنا لايمكن أن يكون حاصل جمعهما بأي من الأحوال إثنان.
غالباً مايكون هذا هو مفتتح التلاعب والملاعبة، ذلك أنه أراد ومنذ البداية كسر مسلمات أفكارك وثوابت قناعاتك وضرب كل ما اتفق عليه الناس في معاملاتهم، ناهيك عن دلالة ما يقول في عالم الحساب وعلوم الرياضيات والمنطق والفلسفة. ثم يعرج بك إلي النقاش متصوراً أنه استهلك تفكيرك في اللامعقول وهيأ ذهنك لتقبل ما يطرحه من أفكار ومغالطات، فما تراه أنت من وحشية إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني يراه هو دفاع عن النفس، وما تراه أنت استعمار استيطاني إحلالي متعسف يراه هو شرعية دولية بمقتضي وعد بلفور وتسويغ الإحتلال من عالم متواطئ لا يحكم ضميره إلا المصالح، وما تراه أنت محاولة لتغيير البنية الثقافية العربية وطمس الهوية وتغييب الوعي العربي يراه هو عولمة ضرورية للتقدم نحو القرية العالمية الكبري والشرق الأوسط الكبير وخرافة النظام العالمي الجديد، وما تراه أنت من ثوابت الأمة وحقها في تقرير المصير والدفاع عن سيادتها وحرية إقليمها ونهضتها يراه هو من قبيل إرهاصات الأفكار "القومجية" والكلام الكبير "والحنجوري" وهو من بقايا فكر المقاومة والممانعة والتصدي الذي أضاع الأمة العربية بداية من تجربة 23 يوليو وجمال عبد الناصر ونهاية بتجربة صدام حسين وسقوط العراق واستباحته وطائفيته وتفتيته، وما تراه أنت من عدوانية اليمين الاسرائيلي وتطرفه وتهويد القدس واهدار التاريخ واستباحة المقدسات يراه هو من قبيل الاستعداد لمفوضات السلام علي طريق أوسلو وخارطة الطريق، وهكذا عن أطروحاته ومقولاته ومعتقداته وربما أيضاً تخريجاته وترهاته وضلالاته.
أما الثاني فهو يبدو للوهلة الأولي أكثر ذكاء من النمط الأول، حيث يفاجأك بداية بأن يسلم معك بصحة معادلتك فيبادرك قائلاً: نعم أنا أتفق معك تماماً في أن واحد زائد واحد يساوي إثنان، وهنا يبتسم ابتسامته الصفراء ويردف: لكن ذلك هو ما يزعجني، ثم يبدأ في سرد أفكاره التي تمشي في نهر نفس الطريق والذي حتماً يقودك إلي نهاية النفق المسدود الذي ذهبت إليه مع رفيقه الأول ومراوغاته.
هي بلا شك إختلافات موضوعية مردها إلي إختلاف التركيبة الذهنية والرؤية والمعالجة، وهي أيضاً حصاد إختلاف الثقافة والتربية وروافد الفكر وأصول التعليم وتراكم التجارب والممارسات في مجتمع لا يسلم بقواعد المنطق الإ إذا تحققت فيها نفعيته ومصالحه. وهي نفسها شواهد وخصائص فلسفته البرجماتية الغربية والتي أحياناً تقيس المسافات بالكيلوجرام لا بالكيلومتر، ذلك أنها تبحث في كل شئ عن الحجم الحرج والوزن النوعي والمعادل المادي حتي ولو جاءت جميعها خارج الإطار الأخلاقي والمنظور القيمي للدنيا والمعاملات والقضايا والناس والحاجات والأشياء والإشكاليات. إنها الرؤية المادية التي لا تنصرف الإ في عالم البنوك والتجارة والتراكم الرأسمالي، بل وتوحش الرأسمالية وشطط القياس في آلياتها وأسواقها وهو ما أدي بها إلي أزمتها الأخيرة التي هزت عروش منظريها وفرضياتها وخلخلت القواعد التي كانت راسخة تحت أقدامها، وهنا تجلت أزمة العالم الذي نعيشة باعتباره عالم مضطرب يفتقد اليقين، وهو عالم مريض بظواهرة وإبداعه.
تذكرت ذلك بينما أطالع إحدي روائع المسرح العالمي " مطعم القردة الحية " للكاتب التركي " غنكورد ديلمان" وبدا ساعتها العالم كله أمامي بكل تناقضه ومراوغاته، وكأنه تحول إلي مطعم كبير هو نفسه مطعم القردة الحية، وهي واحدة من المسرحيات القليلة التي لم تصادرها السلطات التركية، ذلك أن غنكور ديلمان واحد من الكتاب التقدميين في تركيا ولد عام 1930 وحين أتم دراسة اللغة في جامعة استانبول سافر في بعثة دراسية للولايات المتحدة الأمريكية لدراسة فن المسرح ما بين عامي 1961 و 1964 وهو صاحب أسلوب شاعري يؤمن في قرارة نفسه وعميق فنه واستقامة فكره بالإنسان كقيمة وتجربة وكيان، وهو ينظر إليه في احترام رغم حاكمية السوق وآلياته التي عمدت لتشيئ الإنسان وتحويله بضائعاً رخيصة تبتلعها العولمة الإقتصادية الظالمة ثم تتقيؤها سلعاً ومنتجات، وأسهم في مضاربات البورصة وسندات.
مسرحية مطعم القردة الحية ترجمها إلي العربية نصرت مردان وراجعها وقدم لها الدكتور إبراهيم الداقوقي الذي يقول عن غنكور ديلمان " إنه كاتب إجتماعي كبير وناقد فني عنيف يحاول انتزاع الأقنعة عن وجوه البشر ليروا الحقيقة كما هي بعيداً عن الزيف والنفاق والتملق، ودون خوف أو وجل من دكتاتورية السلطة وجبروت الإرهاب الفكري وسطوة رأس المال، فإذا خانه التعبير عن ذلك إرتفع عن سطحية الواقع ليحلق في أجواء الرمز الموحي ليكشف ما في الحياة من قبح وتفاهة ولؤم وتعاسة، وهو في ذلك كله يظل علي إيمانه العميق بأن الحياة ملحمة نضالية يجب علي الإنسان أن يتمتع بجمال الكفاح فيها وروعة الإنتصار علي سلبياتها".
تحكي مسرحية مطعم القردة الحية قصة الزوجين "جوناثان" وهما يقضيان شهر العسل في "هونج كونج" حيث الزوج ثري أمريكي بدأ حياته ماسحاً للأحذية وبائع جرائد، وهاهو الآن يمتلك عدداً من أبار النفط، أما الزوجة فهي غانية جميلة لعوب، وقد جاءا إلي المطعم المشهور لتناول العشاء، قرد حي تقطع رأسه أمامهم علي المائدة ويقدم مخه طازجاً للزبائن، وعندما يهرب القرد بعد حلق شعر رأسه وتجهيزه يستدير الزوجان ليساوما الشاعر الفقير "وونك" الذي تصادف وجوده في المطعم، علي أن يبيع لهم مخه بدلاً من القرد الهارب، فالزوج الغني لا يحب أن يصدم عروسه الجميلة ويجرح مشاعرها الرقيقة بعدم تحقيق أمنيتها في العشاء الشهي الغريب الذي أرادته وجاءت هونج كونج خصيصاً للحصول عليه.
هنا يقوم غنكور ديلمان بتعرية الأخلاق الرأسمالية الأنانية الرثة ويسقط قناع التمدن والحضارة والمظهرية عن وجه الزوجين ليظهر التناقص والتعالي والإنتهازية ويجسدا معاً بسلوكهما الشاذ اللاأخلاقية في أوضح صورها ومعانيها. تتوالي المشاهد وتتعدد المواقف والمفارقات وتزداد الدراما في حبكتها صخباً وتعقيداً حيث يتحول الإنسان إلي شبح تطارده قوة تحكمية لا ترحم، وهي تصر علي اصطياده وتحويله فريسة لأطماعها ونزعاتها ورغباتها حتي ولو لامست حد الجنون والعجب والغرابة. وهنا وقع الشاعر بين نفسه ونفسه في تناقض مرير بين قدراته الفكرية والأدبية الهائلة ومحدودية إمكاناته المالية وعجزه حتي عن الوفاء بأبسط متطلبات أسرته وذويه، وجبة واحدة تسد الرمق. ولم يترك له الزوجان الثريان فرصة للتفكير بين غريزة البقاء وبين واجب التضحية المحتوم من أجل تأمين حياة أبناءه، وهنا تتجلي عبقرية الكاتب الذي بدا ممتلكاً لأدواته بشكل مبهر استطاع تجسيد عبثية الفكرة ومراوغة اللحظة ولامعقولية الصفقة وتدني المساومة وجنون العرض ولاأخلاقية الزوجين بما يمثلانه من استغلال وانحطاط.
كان الكاتب رائعاً في لغته الشاعرة ومعالجاته المبهرة التي اسقطها علي واقع العالم ولحظته المراوغة، ويبدو أنها مراوغة فقط في أدبياتنا وتصوراتنا وأفكارنا، لكنها ليست كذلك في عرف السماسرة وحاكمية رأس المال وعسف السلطة أياً ما تكون دعائمها وأشكالها، حيث عالمها المفضل هو مطعم القردة الحية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.