ازدهرت صناعة الكلام في مصر عبر الفضاء التليفزيوني لسنوات، ثم بلغت آمادا غير مسبوقة بعد ثورة 52 يناير حين باتت حالة الكلام هي أبرز النزوعات المصرية المزاجية، والمعلم الأكثر بروزا للعصر الذي نعيش. ولم أندهش للاحصاء المدهش الذي أخبرنا مؤخرا أن مصر صارت بلد الثمانية وستين توك شو. إذ كنت أستشعر زيادة مضطردة في هذا النوع الإعلامي السياسي الثقافي، حتي ليكاد يصبح ساحة تعميد للوضع الاجتماعي أو الأهمية المهنية، أو الشهرة من دون مسوغات في كثير أحيان. كما صارت مؤسسة التوك شو رأس جسر للعبور إلي مصالح المالكين في حالة الإعلام التجاري، فيما يعاني الإعلام الحكومي من انهيار مؤسسي ومهني، وغياب أية درجة من الوعي بمصالح مالكه، فضلا عن خضوعه إلي ضغط مروع من الشارع يمنعه في كثير حالات من التوازن وضغط آخر ساحق من العاملين فيه يؤدي به إلي تغييب اعتبارات المهنية والكفاءة وإطاحة المعايير الحرفية إلي أبعد بعيد. فنحن أمام حالة يستفرد فيها بنا إعلام مصري تجاري، وإعلام عربي موجه، يستند الأول إلي مصادر تمويل مجهولة الهوية، وأهداف مثيرة للريبة، ويتكيء الثاني علي مؤسسات مخابراتية تستهدف التمدد علي حساب مشروعنا الوطني الأمني والاستراتيجي، والاختراق والنفاذ إلي الداخل المصري والتأثير فيه. فأما عن إعلامنا التجاري فهو في غالبه يعمل لصالح مستهدفات رجال أعمال ينبغي علينا فحصها بدقة، كونها بالدرجة الأولي ارتبطت بجزء من مشروع النظام القديم هو ما يسمي: (التوريث)، أما الجزء الثاني فيرتبط بجناح آخر من ذلك النظام، أو بعمليات غسيل أموال، أو يشكل جبهات مواجهة مسبقة وضربات أجهاض لمهاجمي رجال أعمال متهمين في قضايا تحتاج إلي حائط صد إعلامي يدفع الأذي عنهم، أو يشتبك مع خصومهم، أو يقوم بتصنيع رأي عام هو بمثابة درع رمزي ومعنوي يقي من ويصد عن مصالح صاحب القناة، أو المجموعة المالية والسياسية التي يرتبط بها.. أضف إلي ذلك بعض رؤوس الأموال العربية المغذية وسائط صحفية وإعلامية بغية التوجيه السياسي والمخابراتي الجزئي أو الشامل لها. المهم.. خلقت هذه الأجواء ثقافة جديدة في مصر كانت برامج التوك شو هي الحاضنة الأساسية لها، وأصبحنا أمام طبقة من الذين تفرغوا للكلام في هذه البرامج، مدعمين فقط برغباتهم المحمومة في المزايدة، ومحاولين ازاحة المنافسين من علي عرش التوك شو، عبر الصراخ، والتظاهر بالانفعال، وجحوظ العينين، والتشويح بالأيدي، والتأكيد غير المباشر علي أنهم الأكثر صدقا، والأكثر وطنية، والأكثر ثورية، والأكثر تعرضا للاضطهاد في العصر السابق، والأكثر تعبيرا عن نبض الشارع في العصر الحالي، وهي المظاهر التي تجئ في معظم الأحوال خلوا من مضمون معلوماتي حقيقي، أو رأي يريد أن يكون جزءا من منظومة قواسم أو مشتركات تتلاقي فيها وجهات النظر علي نحو صحي وصحيح. واللافت أن دراسة ما يسمي لغة الجسد Body language عند أفراد تلك الطبقة من ضيوف التوك شو، تخبرنا بقول واحد أننا أمام حالات من الاستعراضية والاستعلاء، والعدوانية والانصياع لأولوية المكايدة، والافحام، وترقيص الحواجب، والرغبة المستعرة في دق القبضات علي الأكف امعانا في الاغاظة، فضلا عن التلوين الصوتي عوضا عن دقة المحتوي، وتوجيه عدد كبير جدا من الرسائل في المساحة المتاحة لمصادرة الوقت، ومنع ضيوف آخرين من الحديث. أما المقدرة الحقيقية التي اكتشفناها ونعيد اكتشافها عبر مراقبة ضيوف التوك شو، فهي التفريغ المعلوماتي شبه الكامل الذي تعاني منه رسائلهم، إذ ينشغلوا بالظهور أكثر من أسبابه، وبالكلام بأكثر من معانيه، فضلا عن أن فقه الأخذ بالأحوط، يدفعهم إلي عدم التورط في أمور تؤدي إلي افتضاح جهلهم، ومن ثم فهم يتجنبون في أغلب خطابهم ما يعرضهم إلي المساءلة المعلوماتية إذا جاز التعبير. التوك شو (الذي بلغ عدد أوعيته ثمانية وستين)، صارت برامجه فضاءات للتحقق الاجتماعي، واصطناع تخليق النجوم الذين في غالب الأمر لا يمثلوا خريطة اللحظة خير التمثيل، كما تزيف برامج التوك شو المعايير التي علي أساسها يتحدد وزن وأرجحية شخص بعينه. إلي ذلك فإن تلك البرامج أصبحت أحواض غسيل سمعة ثلاثية، إذ فيها يصبح مالك القناة صانعا للفعل الثوري، ومبشرا بالثورة قبيل اندلاعها، متملصا من شبهات التصاقه بمشروع التوريث، وارتباطه بنظام أسقطه الشعب لأنه أعاق تلبية احتياجه إلي الديمقراطية والعدل الاجتماعي. وفي برامج التوك شو أيضا يغسل كل من المتحدثين سمعته، ويصوغ هلته وطلته علي المشاهدين كيفما أراد، وبالطريقة التي تحقق له السلامة والرواج. وأخيرا ففي برامج التوك شو يغسل كل من المذيعين والمذيعات صورته، ويعيد تدشين ذاته كما لو كان شخصا آخر، بتاريخ جديد لا علاقة له بسوابق مواقفه.. وبالمناسبة فأنا لست من أنصار ادانة الناس ومحاكمتهم إلا بأسباب جنائية، ولست من أنصار الجمود وعدم التجاوب مع المتغيرات، وبالذات ما يتعلق بما أراده الشعب وسعي إليه وانتفض من أجله، ولكنني من أنصار أن يكون ذلك باقتناع حقيقي، وتعبيرا عن موقف فكري وسياسي يمكن الوثوق بصدقيته وديمومته. وربما يكون من اللازم هنا الاشارة إلي أن أحد تداعيات ظاهرة التوك شو وقد تعددت منابرها حتي بلغت ثمانية وستين هو ما أسماه بعض الخبراء: (الشللية الإعلامية) التي تعني احتكار جماعات من المهنيين منابر التعبير، وتبادلهم الكرة عبر توظيف المنابر المتعددة التي يعتلونها بحيث يضمنون توجيه تلك المنابر إلي بث رسائل سياسية بعينها، ويسيطرون من خلال ذلك الوضع علي انتاج (رد الفعل) كذلك، بحيث يصوغونه علي النحو الذي يخدم (الفعل).. يعني يصبحون (الصوت) و(الصدي). وأخيرا فإن ذلك الوضع يضمن ترويج بعض القائمين بالاتصال من المذيعين والمذيعات لبعضهم دون غيرهم، وبحيث تتوطد سيطرتهم وفرض بقائهم علي الساحة الإعلامية وفيها. التوك شو أصبح من ضمن المؤسسات الأساسية في حكم مصر وصناعة قرارها السياسي أو تشكيله بالرأي، ولكن ليس هناك ما يقنع مراقب نصف فاهم أنه يفعل علي نحو يخلو من الخداع، أو التأثير الملون، أو تصنيع الأثر واختلافه بشكل زائف.