مازال السؤال حول تخلف العرب وتقدم غيرهم.. يتردد علي ألسنة الناس في عالمنا العربي .. بعضهم أحبطته الإجابات المطروحة وأدركه اليأس من الإصلاح والتغيير.. وبعضهم لازال لديه أمل - ولو كان مغشوشا - بدورة حضارية جديدة تعيد " الشمس " التي غابت إلي بلادنا مرة أخري . لدي قناعة بأن أمتنا لاتزال بخير .. وإن فقدت كثيرا من عافيتها.. وبأن إخراجها من " أزمتها " ما زال ممكنا.. وإن كان ذلك بعيدا.. مصدر هذه القناعة أن " الأجل " لم يدرك أمتنا - كما أدرك غيرها - وأنه لا يزال لديها من العقل والوعي والقدرة الذاتية علي مواجهة أسباب مرضها كما فعلت أكثر من مرة . هناك من يري أن هذه الأمة لن ُتصلح إلا بما صلح به أولها.. وثمة من يري أنها لن ُتصلح إلا بما صلح به غيرها.. لكن المهم هنا هو الصلاح المتعلق بالأمة لا بمجرد الأفراد والسلوكيات.. وهذا لا يتحقق إلا إذا تحول الصلاح الي إصلاح.. وانتقل من دائرة التنظير إلي العمل .. ومن معالجة الأعراض إلي فهم الأمراض وتشخيصها ومعرفة مراحلها واستدراك أخطارها.. وهذه مهمة المتخصصين والباحثين في مراكز الدراسات والجامعات قبل أن تكون مهة الساسة والحكومات . في أبحاث عدة حول " شروط النهضة " أهمها في رأي المؤلف الضخم للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو- الذي درسناه في الجامعة - نرصد حالة المريض "العربي" الذي عرفه كاتبنا جيدا في رحلاته إلي الشرق و الذي لم يبرأ أو يشفي من آلامه و عثراته : الاستعمار ونتائجه.. الأمية بأشكالها.. الفقر والظلم والقهر.. و غيرها. وليس أمامه سوي طريقتين للتخلص من هذه الآلام: معالجة المرض واستئصاله أو "إعدام" المريض.. وحين جرب الدخول إلي صيدلية الحضارة الغربية للحصول علي وصفة "العلاج" لم يجدها.. وعليه اقترح مونتسكيو ثلاثة مستويات لفهم مشكلة الإنسان العربي مع الإصلاح: أولها أن مشكلة الإنسان وتغييره تبدأ من النفس من الذات.. بمعرفتها وتعريفها للآخرين وبمعرفة الآخر وعدم التعالي عليه .. ومشكلة التراب أي المكان والأرض من حيث القيمة الاجتماعية.. والمشكلة الثالثة تتعلق بالوقت وهو المكوّن الأساسي لأي حضارة . وقد أعاد مونتسكيو تراجع الأمة عن تحقيق النهضة إلي عدة أسباب منها قابليتها للاستعمار.. وشيوع ثقافة الاستهانة والتهوين .. وطغيان الأشياء والأشخاص والأفكار والإنشغال بالتفاصيل لا بالكليات وهذا ما يوافق عليه دعاة الإصلاح المعاصرين .. إذ يري البعض أن الأسباب التي تؤدي إلي مرض الأمم وقرب آجالها.. هو " الدوران " حول الأفكار المنتجة بدلا عن الدوران حول الأشخاص والأشياء .. تبقي مسألتان : إحداهما أنه من باب التسطيح الفكري إثارة سؤال مثل من يتحمل مسؤولية الكبوة ؟ ومن يتحمل مسؤولية النهضة أيضا ؟ باعتبار أن الجميع يتحملون هذه المسئولية ويتقاسمونها وأن الانشغال بها يوطّن الأزمة لا يحلها.. والأخري أنه من باب "التنفيس" إثارة سؤال مثل هل من خروج إلي سبيل.. بدون فهم وعمل.. باعتبار أن نشر الأمل في مقابل اليأس هو ما نملكه لوقف ما اعتري أمتنا من تراجع.. وفي ظني أن الأمل المغشوش هو الوجه الآخر لليأس.. وأن ما نحتاجه هو العمل المنتج للأمل.. والممارسة التي تحيي الفكرة.. والمصلحون الحقيقيون القادرون علي صناعة الحدث لا مجرد كتابته أو تسطيره.. وهؤلاء - للأسف - ما زالوا في رحم الغيب !.