مريض فوق سرير متحرك في عرض الطريق.. ووسط زحام المرور.. ياله من مشهد مثير السبت: شعرت بدوار خفيف تجاهلت الأمر ربما يكون السبب هو إرهاق الأيام السابقة وساعات النوم القليلة ثم ان ممارسة النشاط اليومي المعتاد مسألة حتمية ولا بأس في حالة توفير بعض الوقت من الحصول علي قدر من الراحة والاستماع الي بعض الموسيقي الخفيفة التي تعيد التوازن النفسي والبدني. في حالات كثيرة يمكن التغاضي عن أزمات عابرة وكل ما أرجوه في هذه المرة أن يكون الدوار حالة مؤقتة تنقضي وتتلاشي ولا تترك أثرا أو هكذا أتمني. حالة دوار الاثنين: الان.. يتحول الدوار الي فقدان توازن كامل في الليلة السابقة عادت حالة الدوار علي نحو أشد قسوة ولكنني ظننت ان العلاج هو النوم أما هذا الصباح.. أشعر بأن الدنيا تدور من حولي بوحشية مصحوبة بألم شديد وقئ متواصل أجد نفسي وسط دوامة جهنمية تجعل من مجرد التطلع الي شئ أمامك.. محنة كبري. جاء الطبيب وقال انه التهاب في الأذن الوسطي وكتب الأدوية وغادر مسكني ولكن إبنتي نيفين أصرت علي نقلي الي المستشفي رغم ان ذلك بدا لي أمرا مستحيلا. الطريق الي المستشفي كان رحلة عذاب أغمضت عيني حتي أخفف من جحيم الدوار ولكن هذا الدوار لا يتوقف ولا يرحم. قال أطباء المستشفي انه لابد من الاطمئنان علي كل شئ: كمية الدم التي تصل الي المخ وسلامة شرايين الرقبة وغير ذلك. تضاعف شقائي ليس فقط بسبب حالة الدوار بل ايضا بسبب بقائي في المستشفي نظرا لكراهيتي الشديدة لدخول المستشفيات وكمريض يخضع للفحوص والتحاليل والأشعات. ويبدو ان القدر شاء ان يختتم بقائي في المستشفي بمشهد مثير كان المطلوب ان أجري أشعة مقطعية علي المخ ولكن جهاز الاشعة في المستشفي كان معطلا وتقرر استدعاء سيارة اسعاف تنقلني الي مستشفي مجاور لكي أخضع لفحص الأشعة. انتهي الفحص ولكن المفاجأة ان سيارة الاسعاف غادرت المكان وأخذت ابنتي تفتش في كل أنحاء المستشفي وخارج بواباتها عن السيارة بلا جدوي لم يخطر علي بال سائق سيارة الإسعاف ان ينتظر عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة حتي يعيدني الي المستشفي الذي نقلني منه. طال الانتظار ولم تظهر في الأفق ايه بادرة أو مؤشرات تدل علي امكانية عودة سيارة الاسعاف أو حتي استدعاء سيارة أخري. وشعرت فجأة أنني بعد كل تلك الدراما التي بدأت بحالة الدوار - في حاجة الي إخراج مشهد اقرب الي الكوميديا. وأبلغت إبنتي بقراري أن تدفع بالتروللي - السرير المتحرك - الذي يحملني الي الشارع وتسير بي وسط السيارات وحركة المرور عائدا الي المستشفي الذي جئت منه وأقيم في إحدي غرفه. ولاحظت وأنا ممد فوق سريري المتحرك الذي يقطع الطريق بسرعة أن بعض المارة يلتقطون صورا لهذا المشهد الغريب: مريض نائم فوق تروللي أشبه بالمقطورة ذات العجلات وسط ضجيج السيارات الخاصة وعربات النقل والدواب. لا أدري ولكن ربما كان هذا المشهد هو المدخل الطبيعي للخروج من حالة الدوار بدلا من أن يؤدي الي تدهور حالتي فقد شعرت بصخب وضجيج الحياة وبحركة الناس في الشارع كما لو كان ذلك يشكل عاملا مساعدا علي إعادة التوازن الي رأسي. ورغم انزعاج أطباء وإدارة المستشفي مما حدث وقرارهم بإجراء تحقيق حول الأسباب التي دفعت سائق وطاقم سيارة الإسعاف الي مغادرة المكان ومقاطعتي والامتناع عن إعادتي الي مكاني الا انني لا أخفي عن القارئ أنني كنت أشعر بمتعة شديدة مما حدث وبأن تجربة الشارع كانت بمثابة إعلان لعودتي الي حالتي الطبيعية وتوازني. القاهرة تختنق الثلاثاء: إذا استمر الحال علي ما هو عليه فإن المصري سيقضي نصف عمره محاصرا في الشوارع بسبب اختناق المرور. الوقت يضيع هباء بلا ثمن والوقود الذي تحرقه السيارات والأتوبيسات المشلولة في الشوارع.. يستنزف جزءا من الاقتصاد والصحة يفسدها استنشاق كمية هائلة من العوادم الناتجة عن احتراق الوقود والأعصاب متوترة ومشدودة.. والدماء تغلي في العروق والحالة النفسية تتدهور الي مستوي الاكتئاب.. والميل الي الشجار والعنف ينمو تحت الجلد. أتذكر الان دراسة نشرها الدكتور شريف محسن محمود قبل 11 عاما يقول فيها ان كل من تصدوا الي قضية التخطيط العمراني في السنوات السابقة لم يطرحوا علي أنفسهم أسئلة بديهية مثل: هل هناك بعد مستقبلي للقرارات التي نتخذها؟ هل نضع في اعتبارنا احتياجات الغد ومتطلباته؟ المؤكد في رأي الدكتور شريف محمود ان القاهرة مدينة لم تكن مشيدة علي أسس تسمح بتوسيعها في المستقبل كما ان قرارات المسئولين في كل ما يتعلق بالقاهرة تشكل حلولا وقتية. وإذا وجهنا سؤالا الي أي مسئول حول اي مشكلة فإنه يقول - علي سبيل تبرئة الذمة وإقرار الواقع إن تلك المشكلة ليست وليدة اليوم بل هي نتيجة تراكمات سابقة. توسيع القاهرة القديمة تحت ضغط الانفجار السكاني جعل حركة حركة العمران تسير بسرعة لا تسمح بوجود أي نوع من أنواع التخطيط فالهدف هو مجرد إيواء الناس.. ولو في جحور أو علب كبريت إسمنتية متراصة عموديا حتي عنان السماء. وتفاقمت المشكلة عندما بدأ نمو من تم ايواؤهم هم أنفسهم وشرعوا يبحثون عن مرافق تخدمهم هنا تضيق الأرض علي رحابتها. واذكر أنني كتبت في يوميات الأخبار قبل عشرين عاما أطالب بتحويل أي مساحة خالية في القاهرة سواء في موقع منزل آيل للسقوط أو خرابة أو مساحة جرداء الي حديقة أو جراج وكنت أخشي في ذلك الوقت ان تتحول مساحة خالية في ميدان عبد المنعم رياض قرب ناصية شارع ماسبيرو الي عمارة شاهقة تؤدي الي إختناق الميدان ولكن هذه العمارة الشاهقة تنتصب الان في نفس المكان لكي تتحدي كل من حذر من نتائج بنائها علي حركة المرور هناك. وذات يوم ظن البعض ان حل المشكلة يكمن في إصدار قانون جديد للمرور (!) لتغليظ العقوبات والغرامات علي المخالفات المرورية. ولم يدرك هؤلاء ان المشكلة كما قال الدكتور شريف محمود تكمن في اختلال الميزان بين حجم حركة المركبات وبين حجم الطاقة الاستيعابية للطرق، وهذا الاختلال يتزايد باستمرار وسوف يزداد سوءا مع الايام وذلك لأنه في الوقت الذي يتزايد فيه حجم حركة المركبات باستمرار تظل الطاقة الاستيعابية للطرق كما هي عليه ولن نستطيع بعصا سحرية تحويل الطرق الضيقة الي طرق واسعة وفسيحة. اذا ماذا سنفعل في المستقبل؟ هل سنصدر قانون مرور جديدا يحمل مزيدا من التغليظ للعقوبات لتصل الي الإعدام؟! حتي الكباري والأنفاق تشبعت بها القاهرة. ثمة اقتراحات متعددة يطرحها الخبراء منها: عاصمة جديدة لمصر وتحول القاهرة الي عاصمة للفن والثقافة والآثار والسياحة ويري الدكتور شريف محمود ان هذه العاصمة الجديدة قد تكون المشروع القومي الطموح للقرن الواحد والعشرين للخروج من الوادي القديم ويطالب بالحفاظ علي شريط عريض من الأرض منزوعة العمران بين العاصمتين الجديدة والقديمة حتي لا يتحول الامر الي مجرد تمديد للقاهرة مما يزيد من مشاكلها ولا يحلها وبطبيعة الحال فإن التخطيط العمراني للعاصمة الجديدة يجب ان يتلافي كافة عيوب عدم التخطيط في القاهرة وكذلك تحجيم التوسع العمراني للقاهرة بهدف دفع أجيال المستقبل للتوجه نحو المدن الجديدة. المهم أن القاهرة ومشكلاتها المرورية واحياءها العشوائية.. تحتاج الي أفكار غير تقليدية وقرارات جريئة. الشريك الاستراتيجي الاربعاء: في البداية كان برنامج »الخصخصة« مفروضا من صندوق النقد الدولي قبل ان ينشئ له قواعد اجتماعية محلية أي قبل ان تري فيه مجموعات اجتماعية جديدة ما يعبر عن مصالحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد يتطرف أنصار الخصخصة الي حد تطبيقها من منظور يساوي بينها وبين إلغاء الدولة بوصفها تجسيدا للوطنية المصرية وللعقد الاجتماعي الذي يربطها بمواطنيها. وخلال المناقشات يميل البعض إلي اعتبار الخصخصة »أداة لجلب المزيد من الاستثمارات او التقنيات الحديثة أو تحسين كفاءة الادارة والتسويق لمؤسسات حكومية أو مؤسسات مختلطة قائمة علي الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. ومن هنا ظهر مفهوم »الشريك الاستراتيجي« وهنا يركز خطاب أنصار الخصخصة علي احتياج الشركات الي هذا الشريك الاستراتيجي لتوسيع اعمالها وتحسين تقنياتها حتي يمكن رفع عبء الاستثمار في هذه المجالات عن كاهل الدولة وتوفير أموال وعوائد ضريبية مضمونة للدولة اذا كانت تملك أسهما أساسية فيها. وفي بعض الشركات يكون الشريك الاستراتيجي مطلوبا بحجة رئيسية هي التوسع في التصدير الي أسواق جديدة وفي بعض الحالات يتم الاكتفاء بخصخصة الادارة دون الملكية. ومع ذلك كله تظل الخصخصة في حاجة الي تبرير والي المضي فيها بحذر شديد عند الضرورة ويبقي السؤال: هل حققت الخصخصة الأهداف التي سعي البعض الي تحقيقها؟ وهل أصبحت الخصخصة عقيدة للدولة في بعض الدول النامية بدلا من ان تكون مجرد أداة وهل تظل في إطار برنامج زمني محدد أم تتحول الي مهمة التفكيك السريع والنهائي للقطاع العام وللاستثمارات الحكومية.. الي ان ينتهي الامر الي بيع أسهم الحكومة في الشركات التي يديرها »الشركاء الاستراتيجيون«. والملاحظ أيضا ان انصار الخصخصة يطالبون بخصخصة استثمارات حكومية جديدة ولا يمانعون في دور للدولة في ميادين غير مرغوبة من جانب القطاع الخاص بسبب ضعف ربحيتها أو حاجتها الي استثمارات متجددة. ماذا اذا لم يستثمر القطاع الخاص في المشروعات الوطنية الكبري؟ وماذا اذا لم يكن معنيا أو مهتما بالتنمية ولكن بالأرباح السريعة المضمونة؟