عالم نجيب محفوظ خاص جداً، وضع بنفسه قوانينه الصارمة وخط بيديه حدوداً لكل منطقة من اهتماماته الإنسانية، ورسم بوضوح أهدافه ولم يكن أمام عينيه في رحلة الصبر الطويلة هدف إلا الأدب، أخلص له وأعطي له بحق حياته بل جعله محوراً لهذه الحياة تدور باقي الأشياء في فلكه وطبقاً له. وكان قلم نجيب محفوظ هو "المشرط" الذي نفذ إلي أعماق هذا الشعب ووصف بأدبه صورة خالدة لمسيرة المصريين منذ أوائل القرن الماضي فأرخ أو أدب التاريخ، وكانت روائع أدبه الخالدة هي قلب مصر الحقيقي محفوظاً في سطور وأوراق. لذلك لم يكن غريباً أن يكون هو العربي الوحيد الذي يحصل علي جائزة نوبل في الأدب عام 1988 ولم يكن مستغرباً أن يحتفي العالم كله بمئويته التي وافقت يوم 11 ديسمبر 2011. لذلك أسعدني أن يشارك "كتاب اليوم" في هذه الإحتفالية العالمية بأديبنا القدير من خلال إصدار عدد خاص بعنوان "أقنعة نجيب محفوظ" للكاتب الدكتور خالد عاشور. وهو كتاب جديد يصدر خلال أيام، موثق ويعد مرجعاً لقراء ومحبي محفوظ. فهو يتناول المراحل الإبداعية المختلفة التي مرّ بها الكاتب وتأويلات النقاد المختلفة لتلك المراحل وقد درس مؤلف الكتاب أدب نجيب محفوظ من خلال رسالتيه للماجستير والدكتوراة لذلك وضع عصارة هذه الدراسة بأسلوب مبسط وشائق ذاكراً كل المراجع التي يمكن للقارئ المتخصص أن يعود إليها لمزيد من المعلومات أو التحليلات. وربما عنوان الكتاب دال علي الزاوية التي اختارها مؤلفه لدراسة نجيب محفوظ وهي كيف قرأ النقاد هذا الأدب الفريد وما هي المدارس النقدية التي اعتمدوا عليها في تقسيم المراحل التي شهدت رحلة أديب نوبل وخرج المؤلف بنتيجة مهمة وهي أن النقاد أو بعضهم ظلم نجيب محفوظ عندما اعتمدوا علي التقسيم الشكلي او الحرفي ولم يغوصوا جيداً في الأعماق والأبعاد المتعددة التي يمكن أن يقرأ بها هذا الأدب الخالد. وذكرني هذا الكتاب الجديد بجمل وكلمات حفظتها ذاكرتي من حواري مع نجيب محفوظ عام 1995 عندما سألته عن الحارة التي مثلت قاسماً مشتركاً في عدد كبير من أعماله ومنها "أولاد حارتنا" و "الثلاثية" و"الحرافيش" و"حكايات حارتنا" وغيرها، قال لي يومها أديبنا الكبير:"أنا ولدت في الجمالية في 11 ديسمبر 1911، وعشت في حواريها وأزقتها، وكنت أتردد بانتظام علي مقهي الفيشاوي نهاراً حيث لا زحام بل يكاد يكون المقهي خالياً، كنت أدخن النرجيلة، أفكر وأتأمل، أمشي في الشوارع وعالم الحارة يحركني بالفعل، هناك بعض الناس يقع اختيارهم علي مكان واقعي أو خيالي ولكني وجدت ان الحارة هي خلفية الأحداث لمعظم أعمالي. وأعتقد ان الكاتب يسعي إلي أن يعيش في مكان يحبه ولذلك كان لابد أن أعيش رواياتي في مكان أحبه وأعرفه وهو :الحارة". وعندما سألته عن الاتجاهات والمدارس الأدبية في العالم التي ينتمي إليها قال لي : أنا قرأت من الأدب قديمه وحديثه، الأدب العربي والأدب العالمي وأعتقد أنني تأثرت بكل ما قرأت ولن أقف موقف الرفض الكامل أو عدم الفهم إلا مع "اللا رواية" أما اتجاهي فأعتقد أنه "الواقعية". شردت بذهني وأنا أتأمل المشهد السياسي الذي تعيشه مصر الآن وسألت نفسي ماذا لو كان محفوظ بيننا الآن، وماذا كان من الممكن أن يكتب عن الشعب المصري بعد ثورة 25 يناير. وشعرت أنني أفتقده كثيراً.