بعد سبع ساعات، ما بين تحليق فوق السحاب، وطي للطريق علي سطح الأرض، وصلت قبيل منتصف ليلة 16 ديسمبر الحالي إلي هذه البقعة التي شهدت إضرام محمد بوعزيزي النار في جسده أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في تونس كي يستحيل إلي نور من بين رماد يضيئ ظلمة غشيت عالمنا العربي إيذاناً ببزوغ فجر جديد. جئت إلي هذه الأرض لكي أنضم إلي أسرة بوعزيزي وأشد علي يد شقيقتيه: الكبري "سامية"، والصغري "بسمة"، وهما تشهدان إزاحة الستار عن صورته الضخمة التي ترتفع في ميدان الشهيد، والنصب التذكاري الذي يخلد لحظة انتحاره وتتناثر فيه أجزاء عربة الخضراوات التي كانت تجلب لهم قوت يومهم.. لم أتردد لحظة في تلبية دعوة عبدالوهاب جلالي، باسم لجنة الاحتفال بالذكري الأولي لثورة 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد، أنا وصديقي الشاعر الفذ جمال بخيت، ونيفين شلبي، مخرجة فيلم "أنا والأجندة" بجزئيه عن ثورتي مصر وتونس.. وقد أتاحت لي هذه الزيارة التاريخية فرصة لقاء الرئيس التونسي الجديد منصف المرزوقي الذي طالبه شعب سيدي بوزيد بإصدار قرار بجعل يوم 17 ديسمبر هو تاريخ الثورة وليس 14 يناير يوم هروب "بن علي" من البلاد، كما أتاحت لجمال بخيت أن يلقي قصائده المحرضة علي الثورة في جمهور ضخم احتشد في قلب الليل في مسرح من مسارح الهواء الطلق.. وكان الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة، قد استقبلني، قبيل مغادرة القاهرة بساعات، وكلفني بأن أمثله في الندوة الدولية المصاحبة لهذه الذكري الأولي لثورة الكرامة في تونس، التي انتهت بإطلاق "جائزة سيدي بوزيد العالمية" التي فوجئنا بتتويجها، في أولي دوراتها إلي ثلاثتنا: بخيت، ونيفين، وصاحب هذه الإطلاله، في إشارة تقدير لثورة 25 يناير في مصر. وكان الدكتور الأمين بوعزيزي، منسق هذه الندوة العلمية، قد استهلها بقوله:"في القرن الماضي كانوا يدعون أن التغيير إنما يأتي من المراكز الكبري، وهناك طبقات مرشحة للتغيير، كما أن هناك هوامش أو مناطق تم تهميشها في صنع التاريخ. لذلك عندما حدثت ثورتنا يوم 17 ديسمبر 2010 كان فعلاً ما بعد حداثي علي اعتبار أن الفاعلين فيه لم يكونوا نشطاء السياسة، كما أن مسرح الأحداث لم يكن المركز، بل أحد الأطراف المهمشة، لذا أخذنا العهد علي أنفسنا أن نحفظ هذا اليوم في الذاكرة، فاستدعينا خيرة الباحثين من الجامعات الأوروبية والتونسية والعربية في اختصاصات عدة: علم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، كي يقولوا رأيهم في كيفية حماية هذا المنجز، علي اعتبار أن العلم هو الذي يمتلك المسئولية الأخلاقية لحماية الثورات بعيداً عن القصف الإعلامي الذي تم ضدنا علي مدار أكثر من عشرة أشهر. وقد فكرنا في أن يكون عنوان ندوتنا "ثورة 17 ديسمبر.. تأسيس للحق في: السلطة، والثورة، والديموقراطية". وأكد بوعزيزي أنه بعد 56 سنة من الإقصاء والتهميش لمنطقة مثل سيدي بوزيد، آن لها أن تمارس حقها في معركة تحرير البلاد والعباد، وأشار إلي أن قول البعض إن هذه المنطقة التي نعيش عليها عصية علي الديموقراطية مرفوض من هؤلاء الذين عودونا علي ان الثورات تبدأ بالبيان الأول الذي هو إنقلاب عسكري، ولكن جاء يوم 17 ديسمبر ليكون إيذاناً بثورة أخري كان البيان الأول فيها جسد يحترق، فقد جسَّد "محمد بوعزيزي" البيان رقم "واحد" في ثورة هذا القرن. وأضاف الدكتور الأمين بوعزيزي قائلاً: "وقد حرصنا، ونحن نعد هذه الندوة الدولية، أن نستدعي خيرة الباحثين من أرجاء العالم ممن كتبوا عن الثورات العربية، وواكبوها وأطّروا ونظّروا لها بحق، وابتعدنا تماماً عن سدنة الاستبداد الذين قالوا إن ثورات بلاد العرب اليوم سلال فارغة، وذلك بهدف التشكيك في جدوي ما تشهده بلادنا".. وقد اختار فريد العليبي الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، لبحثه عنوان "إشكاليات علي هامش الإنتفاضة التونسية"، وفيه أوضح أن سيدي بوزيد لا تثور فقط وإنما تفكر أيضاً.. وذكر أن كل حركة ثورية ينبغي أن تكون لها نظريتها الثورية، واستحضر مقولة "ديدرو" في الثورة الفرنسية، أو صرخته التي قال فيها: "ينبغي جعل الفلسفة شعبية"، وكذا استعاد مقولة "لينين" التي مفادها أنه لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. وأضاف: "في تونس قمنا بإنتفاضة لا تزال متواصلة في أشكال مختلفة، وقد حان الوقت لكي نتأمل ما قمنا به.. وتوقف المفكر جيلبير أشقر، الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، أمام دلالة إضرام "محمد بوعزيزي" النار في جسده، وتأمل رد الفعل الجماهيري نتيجة ذلك، وحلل دلالة الشعارين: "التشغيل استحقاق.. يا عصابة السّراق"، "شغل.. حرية.. كرامة وطنية".. وبدوره قام عبدالحميد العبيدي، الأستاذ التونسي المتخصص في علم الاجتماع، الباحث في قضايا البيئة والاقتصاد بجامعة نانت بفرنسا، بطرح سؤال: "ما القوي التي شاركت في ثورة تونس من 17 ديسمبر الماضي؟، ومن الذي حرّك؟، ومن الذي ثار؟، ومن الذي وصل إلي السلطة؟، ثم من تدخل؟، ومن ساعد؟، ومن سهّل أن يتغير النظام من أجل صعود تيارات سياسية ربما لم تشارك أصلاًَ في الثورة التونسية؟".