الاقتراح المحدد هنا هو التكريم الاستباقي من مصر، اي المبادرة بتكريم النابغين قبل تكريم الخارج، وفي سيرة مجدي يعقوب ومحمد غنيم ما يؤهلهما بجدارة لذلك.. لا أدري. أهي خاصية مصرية أم انسانية؟، ذلك اننا نجل إلي حد التقديس في بعض الاحيان القادم من بعيد، الغريب تحيطه هالة، خاصة اذا ارتبط في الماضي بالدين، وفي العصر الحالي بالعلم والسياسة، لو تأملنا في خريطة الاقطاب وشيوخ الطريق الذين يحبهم الاهل في مصر سنجد ان معظمهم قادم من بعيد، وبالتحديد من المغرب، سنجد ان الخريطة لم تتغير لمواضع القداسة منذ العصور المصرية القديمة. بل ان للاولياء والقديسين دولة موازية للدولة السياسية، قمة الهرم الان مولانا وسيدنا الحسين، للوجه البحري اي مصر السفلي قطب يرعاه روحيا انه سيدي احمد البدوي »الفاسي«. اما مصر العليا فلها سيدي عبدالرحيم القنائي »السبتي«. ثم نتجه إلي كل اقليم أو محافظة بلغة الادارة الحديثة سنجد شيخا كبيرا في المحافظة يوازي حاكم الاقليم أو المحافظ، ثم نندرج نزولا إلي المركز أو القرية، لابد من شيخ صالح يتبرك به القوم، يمكن ان تكون سيرته معروفة، مدونة، أو شبه اسطورية مدونة شفاهة في ذاكرة القوم، اما اذا افتقر القوم إلي قديس معروف فسنجد سيدي الاربعين، لابد من سيدي الاربعين، وهذا في الغالب مجهول الاصل، وربما يكون الضريح رمزيا، لو ان خريطة للاولياء الصالحين المسلمين أو القديسين الاقباط رسمت سنجدها استمرارا للرموز الدينية في مصر القديمة، وسنجد انها في القديم قادمة من بعيد فكريا. اي من عالم الاساطير والمرويات التخيلية وفي عصرنا الحالي سنجد ان معظم الاولياء والقديسين قادمون من بعيد. هذه الظاهرة سنجدها في حياتنا السياسية والعلمية والاجتماعية، خاصة اذا كان القادم من بعيد حقق نجاحا ما في مراكز التأثير بالعالم، وبالتحديد في الغرب الذي مازال يمثل مركزية رئيسية ساضرب مثالا بالدكتور احمد زويل، لاشك انه عالم جليل، حقق انجازا رفيعا في مجاله استحق عليه جائزة نوبل في العلم، إلي هنا والامر يستحق الاحترام، لكن الخلل يبدأ عندما نعتبره قادرا علي انشاء منظومة بحث علمي كاملة في مصر، هو نفسه جزء من منظومة هناك يدخل فيها مساعدوه وتشمل سكرتيرته ومن يعد له القهوة، هذه المنظومة لم يوجدها فرد ، انما مجتمع ونظام علمي، هذا ما يجب ان نعمل علي تأسيسه، لكن عقلية الآتي من بعيد المقدس جعلتنا نتطلع إلي زويل باعتباره صاحب العصا السحرية التي ستنهض بالبحث العلمي، وهذا ما لن يقدر عليه لا هو ولا غيره ممن نبغوا في الغرب، ومنذ ان بدأ الدكتور البرادعي طرح نفسه كزعيم للاصلاح السياسي، أو مرشح رئاسي، بدأ الاحتفاء والتعلق بالقادم من بعيد، الرجل محترم حقق مركزا وظيفيا دوليا، اي انه موظف دولي محترم، لكن ما هي مؤهلاته التي تجعل منه زعيما اصلاحيا لما نعانيه أو رئيسا محتملا لمصر، لقد اصبح سعد زغلول زعيما للامة من داخل بيته في القاهرة، وهو يقترب من السبعين، خرج من التربة من الروح المصرية الحقيقية وحتي الان لم يتجاوز الظروف التي نبغ فيها كزعيم اي شخصية سياسية باستثناء عبدالناصر الذي اصبح زعيما بعد عام ستة وخمسين، في حالات الضعف واليأس يتطلع المصريون إلي القادم من بعيد، سواء لاصلاح التعليم، أو لتحقيق الاصلاح السياسي، غير انني اري ضرورة خروج المصلح الحقيقي من التربة المصرية الحقيقية، أو العمل فيها وفقا لظروفها وشروطها. ان ظاهرة البرادعي تستحق وقفة اطول، خاصة ان له مشايعين الان يسعون إلي خلق اطار اسطوري بحيث يصبح الاقتراب منه محفوفا بالمخاطر، وهؤلاء المحيطون به لكل منهم حساباته، انني اتذكر الان باجلال واحترام الدكتور عبدالوهاب المسيري الذي تزعم مظاهرة لحركة كفاية وكانت منحسرة وكان المسيري مريضا بنوع خطير من السرطان، وقف بشجاعة بعد عودته من رحلة علاجية، لم يكن آتيا من بعيد، كان مزروعا في الوطن بكل همومه وهوائه واحواله، لا يسافر إلا للعلاج ويعود لا فيس بوك ولا تيوتر، وقف في ميدان التحرير وهو يحتضر تم اختطافه والقي به في الصحراء وكانت معاملة قاسية لرجل مريض، لكنه عظيم الارادة، شجاع، انتقل إلي ربه بعد ايام قليلة، هنا سأتوقف امام ظاهرة اخري، تكريم البعيد واهمال القريب. مجدي وغنيم عندما كان د. مجدي يعقوب في لندن كان الاهتمام الاعلامي به هنا اكثر، كنا نتابع اخباره، ونقتص اثاره بل يذهب التليفزيون إليه في لندن، كان الاهتمام به قويا لانه بعيد، مجدي يعقوب مصري عظيم حقا، ذلك ان الرجل سلك طريقا مختلفا لمنطق العصر الذي انقلبت فيه جميع المقاييس، وتلك ظاهرة يشعر بها بقوة الادباء الذين افنوا اعمارهم في الكتابة وتجويد اعمالهم، ثم نجد الان من يصبح اديبا كبيرا بعد ظهوره في احد برامج التوك شو، كذلك العلماء المتوارين بعيدا عن الضوء، في مصر عبقريات ربما تتجاوز احمد زويل وغيره من القادمين من بعيد، لكنهم يعملون في ظروف تعسة، ولانهم هنا لا يسعي احد اليهم، الغريب ان هذا جري مع مجدي يعقوب بعد ان اصبح هنا وليس هناك، قام الدكتور مجدي يعقوب بعمل مثالي يجعلني اضعه في مقدمة الذين خدموا الانسانية لقد ترك لندن وكل ما حققه من مجد علمي. غادر بريطانيا التي حصل فيها علي لقب سير، بدون اي ضجة اعلامية، ولا محاضرات مذاعة علي الهواء حيث يفتي المتحدث في كل شيء وينصح المصريين الذين كان ينتمي اليهم يوما ما لمجرد انه قادم من بعيد. وموضوع الشو الاعلامي عند البعض له تفسير عندي أرجئه إلي حديث اخر، ذلك انني عندما اتحدث عن مجدي يعقوب أو محمد غنيم اشعر باجلال وتوقير واحترام واحاول ارجاء ملاحظاتي المتعلقة بالاخرين. جاء مجدي يعقوب من بريطانيا في صمت اثر ان يتوج حياته بعمل علمي انساني جليل في اقصي نقطة من مصر في اسوان التي كانت منفي لقرون طويلة وربما ماتزال إلي اسوان سعي الرجل بعلمه وخبرته إلي المنسيين من اهله. من المصريين الذين لم يعد يهتم بهم احد. ولا يعيرهم احد التفاتا. من اجل الفقراء في الجنوب خاصة والمصريين عامة جاء مجدي يعقوب واسس مستشفي حديث يعالج الفقراء المرضي مجانا، يعاونه في ذلك شخصيات عامة من مصر في مقدمتهم المفتي الدكتور علي جمعة الذي يرأس جمعية مصر الخير، والملاحظ هنا ان الاعلام بكل اطيافه لم يسع اليه، وحتي اكون منصفا، استثني العاشرة مساء الذي ذهبت مقدمته مني الشاذلي إلي اسوان والتقت بالعالم الكبير، لكنني لم اقرأ حوارا مماثلا في الصحافة المطبوعة مع مجدي يعقوب، لقد قل الاهتمام به لانه اصبح قريبا، لم تعد اخباره تأتينا من بعيد، وعندما استحضر تجربة الدكتور محمد غنيم الذي أسس مركز الكلي بالمنصورة، وجعل منه مركزا عالميا، لم يقدمه الاعلام، ولكن عرفناه من خلال تجربته، وفي حدود ما اعلم لم يكتب عن التجربة إلا كتاب واحد وضعه الزميل مصباح قطب، مع ان التجربة كانت تستحق عشرات المؤلفات، وعندما تقاعد الدكتور غنيم تواري في الظل، لم يسأله احد عن تجربته، عن جهده الذي جعل من مدينة اقليمية مركزا عالميا يجيئه المرضي من جميع انحاء العالم. لقد اصبحت اتعامل مع كلمة عالمي بحذر لابتذالها ولانها اصبحت تنطق في غير موضعها، في الاسبوع الماضي كنت اتحدث مع الصديق الدكتور ابراهيم فوزي وزير الاستثمار الاسبق، كان دعاني إلي إلقاء محاضرة في مجموعة من المصريين الذين زاروا الولاياتالمتحدة مؤخرا، وكان النقاش طابعه اليأس والقلق علي مستقبل مصر القريب، كنا نعلق علي ما سمعناه. ولا ادري كيف تداعي الحوار إلي مجدي يعقوب ومحمد غنيم، تساءل الرجل قائلا: »لماذا لا يمنح كل منهما قلادة النيل«؟ فوجئت حقا، ولكن ربطت الامر بتأملاتي في موضوع البعد وشرط تحققه للقداسة في الماضي وللسمعة الاعلامية في الحاضر، حتي الاوسمة الرفيعة لابد ان تمنح بعد التحقق علي البعد، هذا ما رأيناه في نوبل الادب لمحفوظ وهي نوبل المصرية الوحيدة مائة في المائة، لا شبهة فيها ولا مجال لذرات الغبار، الحاصل عليها اديب عالمي بحق وهو مصري منقوع في الواقع المصري بجدارة اما النوبلات الاخري فكل منها تحتمل ملاحظات ما! الاقتراح المحدد هنا، هو التكريم الاستباقي، اي ان تبادر مصر بتكريم علي اعلي مستوي لابنائها النابغين الذين قدموا خدمات حقيقية قبل التكريم البعيد، لذلك اقترح منح قلادة النيل للدكتور مجدي يعقوب وللدكتور محمد غنيم، وفيما قاما به حيثيات حقيقية تكفي لحصولهما علي نوبل لو ان في العالم قدرا من الانصاف. الأقصر الخميس : ما جري في الأقصر تحت إدارة الدكتور سمير فرج مصدر أمل في كل الاتجاهات، رغم ذلك تظهر انتقادات عنيفة وكأن قدرنا الجدل الدائم حول الأعمال التي تتجاوز الأطر الضيقة المحدودة، وفي الأيام الأخيرة قرأت أكثر من مقال يهاجم ما يحدث في الأقصر بحجة ان ما يجري المقصود به السياح فقط وان التضحية بمصلحة الأهالي تتم يوميا، انني احترم الآراء المختلفة رغم الدوافع الخفية التي ربما تكمن هنا أو هناك، السد العالي رغم عظمته لم يسلم من النقد، تأمين القناة، حتي حفر القناة، ما قرأته عن الأقصر ينحصر في اتجاهات محددة، بعضها مصدره أجانب ولهم مؤيدون من مصر، أعني مصريين، لديهم رؤية استشراقية في الأساس، يريدون رؤية الأكواخ القديمة والبيوت العشوائية متداخلة مع ساحات المعابد الكبري وأيضا الأهالي يسكنون المقابر الأثرية، يمارسون تفاصيل الحياة اليومية بجوار التوابيت والتماثيل ويختلط دخان الأفران مع اللوحات المحفورة علي الجدران، أما المرافق فحالتها بدائية، لا ماء جاري، ولا مجاري، لأكثر من قرن عجزت الدولة عن تغيير هذا الوضع، بالطبع أعرف ان انتزاع إنسان من مكانه أمر ليس سهلا، خاصة في مصر، ولكن الانتقال الذي تم من القرنة بأقسامها الثلاثة إلي الطارف راعي مصالح الناس وعاداتهم واذا ما استطلع أصحاب الرؤية الاستشراقية العجائبية آراء الناس في قراهم الجديدة سيجدون الحال مختلفا الآن، لقد زرت أسرا عديدة وأصغيت إلي السيدات ، والمرأة في الصعيد هي مصدر القرار ومركز الثقل، الأسر الآن راضية وبدأت تتكيف مع الواقع الجديد. ليس صحيحا ان ما يجري في الأقصر أهمل مصالح الناس، بالعكس، ان التطور الذي جري في فترة قياسية سيؤدي إلي أوضاع ايجابية في الارتفاع بمستوي المعيشة ومصادر الدخل، الموضوع لا يتصل فقط بالسياحة، ثمة تنمية زراعية وصناعية، يحاول الدكتور سمير فرج تحقيق أقصي قدر من المعادلة الصعبة، ان يتم التطوير بأقل الخسائر، وأرجو أن يوفقه الله في موضوع المريس، يوم الجمعة الماضي قرأت مقالا قاسيا لزميلي الموهوب هشام مبارك يتحسر فيه علي زمن الطفولة في الأقصر، وينتقد التطوير، يفتقد ما اعتاد عليه في زمنه البعيد، وأدعوه إلي تخيل ما سيتذكره أبناؤه في المستقبل عن الأقصر عندما يزورونها، لا شيء يبقي كما هو ياصديقي، المهم، هل يتجه التطوير إلي الأفضل، إلي مصلحة الناس أم لا؟ عن معايشة وعن معاينة وصلة بكل الأطراف أؤكد ان ما جري في الأقصر معجزة للإدارة المصرية، باعثا للأمل، تماما كتجربة الفريق أحمد شفيق في المطارات وتطوير مصر للطيران وأيضا قطاع الاتصالات، أذكر صديقي هشام مبارك بصريخ النساء منذ خمسين سنة عندما كان يرن هاتف العمدة، أو يصل تلغراف ، لم يكن هشام قد وُلد بعد، لكن هذا ما عشته في جهينة طفلا، الآن يوجد في جهينة أمهر مستخدمي الانترنت، هل أبكي الزمن القديم، أم أحاول استيعاب الواقع الجديد، ما جري في الأقصر مثير للأمل، خاصة انه تم تحت قيادة علمية، نزيهة، ويا أخي الدكتور سمير فرج تحمل ما يقال، لا تحزن ولا تبتئس، فد علمتني التجربة سواء في الأدب أو في شتي مجالات الحياة ان الأعمال الكبري لا تخلو في نظر البعض من النقص وتطالها سهام النقد الذي يكون جارحا ومغرضا أحيانا، المهم صالح الناس والوطن، وبكل صدق أقول ان ما تحقق في الأقصر ايجابي لكليهما. وزير الري السابق الثلاثاء: عبر ثلاث صفحات في الأهرام تحدث وزير الري السابق الدكتور محمود أبوزيد، وهو عالم مشهود له بالكفاءة في تخصصه، ولكن تمت اقالته في ظروف غامضة وتلك مشكلة عامة. اذ تغيب الشفافية في أمور حساسة لابد معها الوضوح ولكن مازلنا نفتقد هذه الشفافية، لم أخرج من مقالات الوزير السابق إلا بسرد تاريخي لاشك انه مفيد للقاريء الذي لا يلم بمشكلة اعتبرها من أخطر المشاكل في تاريخنا القديم والحديث، حديث الوزير فيه نغمة الدفاع عن النفس، محاولة تبرئة الذات ، انه يؤكد ما يتردد عن اخطاء ارتكبها اوصلتنا لما نحن فيه. فليصدر بيان عن مجلس الوزراء حول ما يتردد في الأوساط الإعلامية والعلمية ان الوزير السابق مسئول بشكل ما عن الأزمة الحالية، أتمني ألا يكون ذلك صحيحا، لكنني أتمني التوضيح حتي نفهم وحتي يأخذ كل انسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب، ان مقالاته الثلاث أثارت من علامات الاستفهام أكثر مما قدمت من إجابات، فما هي الحقيقة؟