رغم إيماني العميق بأن الثورة لن تموت ولن تُهزم، وبأن علي الجميع، بمن في ذلك اعضاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة، أن يدركوا أنه لا عودة لما قبل 25 يناير، إلا أنني أعترف، والاعتراف بالحق فضيلة، بأن الحُجج التي ساقها صديقي في محاولة لإقناعي بأن الثورة اختُطفت أو انتهت وأن علي الثوار البحث عن سبيل لاستردادها أو إحيائها، لها وجاهتها وحجيتها..يري صديقي أن وضع الثورة والثوار يشبه الي حد التطابق موقف مصر بعد حرب اكتوبر 1973.. فقد عبرنا القنال وحققنا معجزة أبهرت العالم ثم اكتفينا بالعبور ولم نطور الهجوم حتي حدثت الثغرة وأصبحنا في موقف لا نحسد عليه.. ولم يعد امامنا إلا التفاوض لاسترداد ارضنا المحتلة..!!..وفي 25 يناير، قمنا بثورة أذهلت العالم ووصفها زعماء دوليون بارزون بأنها الثورة الاجمل والاروع والاكبر في تاريخ البشرية..ولكننا اكتفينا بإسقاط رأس النظام ثم غادرنا الميدان تاركين مهمة استكمال بقية اهداف الثورة لنفس النظام الذي ثرنا من أجل تغييره!!..والآن لم يعد أمام الثوار سوي التفاوض مع مَن بيدهم الامر لتحقيق ما يتيسر من أهداف الثورة..وتصور الثوار بحسن نية أن التغييرات التي ستحدث ستكون جذرية وتقتلع النظام القديم الفاسد من جذوره لتستبدله بنظام جديد كما هو العهد مع كل الثورات في العالم..ولكن الطريق الي جهنم مفروش بالنوايا الحسنة كما يقولون.. واضاف صديقي، متشجعا فيما يبدو بما يكون قد ظهر علي ملامحي من بوادر ميل الي وجهة نظره، أنه بمرور الوقت لم تحدث سوي تغييرات سطحية أو "تجميلية" لتتحول الثورة بالتدريج الي مجرد حركة إصلاحية .. ثم باغتني بقوله "إذا كنتَ تشك لحظة في كلامي فقل لي ما الذي تغير منذ نحو 11 شهرا مرت علي قيام الثورة"...النظام هو هو.. رجال مبارك في أماكنهم...في الوزارات وفي الصحافة والاعلام وفي الاقاليم والمحليات..الفساد والرشوة والمحسوبية لم تُمس..بل زاد علي ذلك مسلسل الفوضي الذي حذرنا منه حسني مبارك كبديل له، ناهيك عن الانفلات الامني والارتفاع الجنوني في اسعار السلع الرئيسية.. ويجب أن أعترف أيضا أنه رغم مرور نحو اسبوع علي هذا الحوار بيني وبين صديقي فإنني فشلتُ تماما في الإفلات من أسره، بل إن الحوار فجر العديد من الاسئلة التي راحت تطاردني وتعذبني إذ إن صديقي لم يكتف بالقول إن "الثورة ماتت ولا عزاء للثوار"، علي حد تعبيره، بل راح يشكك في كل الخطوات التي اتخذت حتي ذلك الحين، ابتداء من عدم الاعتراف بالشرعية الثورية وبدء صفحة جديدة تماما كما فعلت تونس، ثم لجنة التعديلات الدستورية التي شكلها المجلس العسكري لإجراء نفس التعديلات التي كان قد طلبها حسني مبارك علي دستور مهتريء، وتشكيل تلك اللجنة المثير للجدل الذي جاء أسوأ من تشكيل اللجنة التي اختارها نظام مبارك، علي حد قوله، ومرورا بإنشاء لجنة أحزاب سمحت بقيام أحزاب سياسية جديدة علي اساس ديني بالمخالفة للإعلان الدستوري وجميع الدساتير المصرية منذ عام 1923 وحتي الآن..وكذلك السماح بإنشاء بضعة أحزاب مستنسخة من الحزب الوطني المنحل برئاسة كوادر سابقة في ذلك الحزب، وانتهاء بالإصرار علي عدم تطبيق العزل السياسي علي من افسدوا الحياة السياسية وأسهموا في نهب وتبديد ثروات واصول الوطن..إضافة الي التراخي والتباطؤ الذي يصل حد التواطؤ في محاكمة مبارك وعصابته بينما يتم تقديم الاف المدنيين، وبينهم الكثير من الثوار الابرياء، الي محاكمات عسكرية عاجلة.. فضلا عن مواصلة الممارسات الوحشية التي كان يقترفها أمن الدولة بصورة منتظمة ضد المعتقلين السياسيين، وابتداع اساليب لم يصل اليها خيال أمن الدولة في أوج جبروته وفاشيته مثل جريمة " كشف العذرية " التي ستظل وصمة عار تلاحق المجرمين الذين ارتكبوها وجميع قياداتهم.. وبالرغم من كل ما قاله صديقي، الذي ذهب الي حد القول إن الثورة المصرية تمت تصفيتها بفعل فاعل علي غرار ما حدث مع الثورة الرومانية التي تم اختطافها وتبريدها ثم بث الفرقة بين الثوار وتشويههم امام الرأي العام لينتهي الامر بعودة أحد أركان نظام شاوشيسكو الي سدة الحكم، الي جانب شواهد كثيرة لا تحصي ولا تخطئها العين والتي يمكن أن تشكك في النوايا والاهداف، وآخرها الاصرار علي ضرب المعتصمين المسالمين أمام مجلس الوزراء بالرصاص الحي والخرطوش في تكرار مروع لمجزرتي ماسبيرو، ومحمد محمود ، إلا أنني ما زلتُ علي إيمان لا يتزعزع بأن الثورة التي تسكن صدور شباب مصر والتي دفع شهداؤنا ثمنها من دمائهم الغالية، لن تموت، بل لن تهدأ حتي تحقق جميع اهدافها في التغيير والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.. ومن يشك في ذلك ولو للحظة واحدة فما عليه إلا الاستماع الي الجيل الجديد الرائع من شباب مصر ليتأكد من أنه قادر علي تحقيق التغيير المنشود لمستقبل أفضل ليس في مصر فقط بل في المنطقة والعالم أيضا.. وليتأكد كذلك من أن الذين يطلقون الرصاص الحي علي ثوار مصر وثورتها لن يطفئوا نارها بل سيزيدونها تأججا واشتعالا.