مع عميق تقديري لأسماء السادة الوزراء، ومع كل احتراماتي لأقدارهم العلمية والمهنية والسياسية فإنني في حيرة من أمورهم، ومن قبولهم التكليف، وقبضهم علي الحقائب، واعتلائهم المقاعد. إذ صار المنصب السياسي العام ساحة لمرمطة أي اسم، ومسح الارض بكرامة أي إنسان، لا بل وأصبح فضاء انتقام من اصحاب الموهبة والقدرة الذين طال انتظار البعض متلمظين للفتك بهم والتخلص من وجودهم الذي يعذب أرباع الموهوبين، وانصاف المتعلمين في كل يوم ألف مرة. وحتي اذا كان الاختيار او التكليف لغير الموهوبين والمثقفين العباقرة، واقتصر علي اصحاب الحظوظ عبر المعرفة والصداقة والوساطة، فإن شاغلي المناصب، أو الهابطين عليها، يظلون أهدافا للمرمطيزم أو الاستباحة والاهانة، من جانب اصحاب الثقافة الجديدة في المجتمع وهم الاغلبية، وأعني بهم معتنقي ثقافة السوداوية. طاقات من الكراهية، والغل، ومركبات النقص، والرغبات المكبوتة في ضرب الآخرين بقلة القيمة والبهدلة ستغمر الوزراء في مساحة مهامهم الجديدة فضلا عن إغارات السفالة التي باتت ظاهرة قومية بطبيعة الحال. التساؤل الذي يعصف بدماغي هو: »لماذا يقبل الوزراء بالمرمطيزم، طالما هم يعرفون ان وظيفة وزير »مؤقتة« وسوف يتعرضون فيها لهجوم يوغل في الايذاء علي النت، او يلغ في الدماء بأماكن العمل. سوف يسبهم من لا يعرفونهم في المواقع الاليكترونية، والروابط الاجتماعية، وسوف يجترئ عليهم مرؤوسيهم في كل وزارة، وصولا الي اقتحام المكاتب وضرب المسئولين، أو منعهم من العمل! وسوف يعاملهم الغوغاء خارج أماكن العمل، وكأنهم عبيد (والعبد يقرع بالعصا كما تعلمون والحر تكفيه الملامة). سيطالبهم الجمهور بتحقيق المستحيل في الزمن المستحيل، ويحاسبهم لا بل ويعاقبهم حين يعجزون عن مناطحة الصخر، ويفشلون في تجفيف البحر! الغرض في النهاية هو سبهم وتحقيرهم، والانتقام من فكرة وجود سلطة، واهانتها، والتجبر عليها ومرمطتها. مازلت دهشا أسأل في مثل هذا الطقس الوحشي الذي نعيش، ما الذي يدفع اناسا محترمين الي قبول التكليف والاعلان عن موافقتهم علي تحمل المسئولية. أعرف طبعا ان البعض يقول انه وافق من أجل مصر، وان الصعاب تهون في سبيل البلد وأهله وناسه. ولكنني مع إزدرادي وتصديقي كل العاطفية التي يحرص أبطال الموقف علي تغليفه بها، ومع كل تلك العبرات التي سحت وسالت من جانب عيني مدرارة، ليس بمقدوري قبول هذا التبرير أو الاقتناع بمنطقيته.. لان الوزير من أولئك يعرف انه لن يبقي الا لشهور معدودة ثم يعود من حيث أتي. وهناك البعض القائل انه دخل الوزارة وقبل تكليفها من أجل الحصول علي لقب وزير ولو ليوم واحد، وهذا اكثر ادهاشا لي، لأن (وزير) كان لفظة نميسة فخيمة في سالف العصر والأوان، أيام كان الناس يحترمون مسئوليهم وقادتهم.. اما اليوم فاذا قلت: (الوزير فلان) ستجد عشرة انشقت عنهم الارض، يستعرضون بطولاتهم في سبه وبهدلته، ووصمه علي النت وخارجها بأنه لص وتافه، وسكير، وجاهل، ومنافق، وفلول، ونسوانجي، وخالته رقاصة! يعني حتي الحصول علي لقب (وزير) لم يعد مأثرة تجاوز كل المآثر، وانما يفضي الي كتابة تاريخ موحل معتم وقاتم كالنيلة الزرقاء، لحامل اللقب، والي تحويله أمثولة وعبرة لمن يعتبر لأنه جرؤ علي تتويج نضاله المهني والشخصي بقبوله التكليف، أو نزع الي مساندة بقاء الدولة المطلوب تفكيكها وإسقاطها. ثم لماذا يقبل وزير الداخلية علي وجه الخصوص فيما يعرف أكيدا أنه سيمضي في مكتبه شهرا أو اثنين، ثم يخرج الي السجن لانه تجاوز سلطاته واصبح متهما بالتجاوب مع الاستفزاز والتعامل والاشتباك مع مخترقي القانون.. يعني قبول وزراء الداخلية الاستوزار، يعني انصياعهم الي دخول السجن، فتوجيه اتهام القمع او الادعاء به صار أسهل من شرب زجاجة كازوزة، وفوق ذلك فإننا بمنتهي سوء النية اذا تصورنا قبول رجل أن »يتوزور« أي يبيت وزيرا، لأنه حرامي ومتربح، فإن طبيعة المرحلة تمنع لصوصيته وتصادر علي إستوزاره، فالأصل في الزشياء أن يتعلم المرء من رأس الذئب الطائر، ونحن في فترة تكاثرت بها رؤوس الذئاب الطائرة، الامر الذي يجعل عدم ادراكها أو التشاغل عنها غفلة كبيرة تشارف البلاهة والهبل، إذ يعرف الوزير حتي مع افتراض كل سوء السريرة والنية.. أنه لن يقدر علي السرقة علي الاقل في اللحظة الراهنة جدا، وبالتالي يسقط مبرر قبول التكليف للسرقة، كما سقطت كل المبررات السابقة الأخري. وللأمانة لابد ان نذكر لبعض الوزراء استجابتهم لنداهة قلوبهم الخفيفة، وتراجعهم عن قبول التكليف، وكذلك ابعاد الآخرين تحت وطأة الوشايات والاستجابة لشكاوي الكيد، ونصب الفخاخ ونسج الشباك، ودون النظر الي أية اعتبارات انسانية، بعد ان يكون الوزير المرشح قابل رئيس الوزراء المكلف، وظهر في التليفزيون، وفرحت أمه به، وهز رأسه ناظرا للباشا رئيس الحكومة بشكل شبه فلسفي، وكأن وراء الاكمة ما وراءها، وبالطبع ليس وراء الاكمة شيء فضلا عن عدم وجود الأكمة في ذاتها (وبالمناسبة فالاكمة هل التل المرتفع في الصحراء).. كل ما في الامر ان رئيس الحكومة لا يريد ان يتحمل مسئولية اختيار شخص ليصبح وزيرا، وتجاوب مع ثقافة التقارير والشكاوي الكيدية السائدة في البلاد، إذ تعرفون جميعا ان كلا من افراد الشعب يسير الآن حاملا سنارة ودلو ماء مطين، حتي يقدر علي الصيد في الماء العكر كلما استطاع الي ذلك سبيلا، واحدي ساحات مزاولة تلك الثقافة هو اختيار الناس لشغل المناصب العامة.. ولذلك فمازلت في حيرة أتساءل لماذا يوافق الوزراء علي الترشيح رغم كل تلك »المرمطيزم«!!