يوم الاثنين الماضي 41 نوفمبر 1102 أتم البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية أربعين عاماً متوجاً علي كرسي مار مرقص الرسول.. بابا للمصريين ومواجهاً لبابا روما.. متفوقاً في مصريته ممسكاً في يده بالحبل السري لمصر دون أن ينقطع رغم الأنواء التي مرت به. تربطني شخصياً ببابا مصر علاقة بدأت بيوم تسجيل كل منا صحفي في جدول العاملين بنقابة الصحفيين حيث كان اسمه نظير جيد قبل أن يحمل اللقب الكهنوتي شنودة الثالث. والبابا يحمل هذا المنصب الكهنوتي »ظل المسيح علي الأرض« محاولاً ما أوتي من شجاعة الرهبان والإحساس بالمسئولية أن يواجه ما لم تواجهه مصر في مسيرتها وتاريخها من محاولات التمزق والتفرقة بين القبط المسلمين والمسيحيين ولعل استقرار كلمة القبط إلي حد ما عند الجزء المسيحي من شعب مصر كانت جزءاً مهماً من الاستئثار بالاسم العريق ولعلها جاءت بمحاولة التفرقة ولكنها استقرت علي العراقة والأصول الثابتة استطاع البابا شنودة بالتركيبة الكيميائية العبقرية للمصريين أن يمسك بالدفة ويمنع الغرق لمركب تحمل أطيافاً من المصريين بعضها سهل القيادة والبعض الآخر يعيش العناد المصري الذي أخذ بذوره من الفرعونية. وكلما ارتفع الموج مهدداً المركب قبضت يده الذكية بقوة علي الدفة لينقذ الوطن. لم يدخل في مناقشة حول الفتنة الطائفية وكان دائماً ينأي بنفسه عن خوض أي حوار يعترف فيه بفتنة طائفية تجتاح شعب مصر. وفي الثمانينيات دعانا البابا نحن زملاءه في نقابة الصحفيين إلي زيارة لباقة الكنائس والأديرة الموغلة في القدم في وادي النطرون وهناك شاهدنا بتعمد منه كيف تدار الأديرة والكنائس اقتصادياً وباكتفاء ذاتي شديد الذكاء وبمصرية الزرع بنتاج يملك قدرة التصنيع.. وكان قداسته قد أمضي فترة الغضب من الدولة في الدير فأحكم فكره جيداً وحينما سألته: ماذا فعلت حينما أبعدك الرئيس السادات؟ فقال بسرعة وبسماح الآية »أدر له خدك الأيسر«: الرئيس لم يبعدني لقد كنت معتكفاً!! وأخذنا إلي إضافته لمجموعة الأديرة، تلك الإضافة التي ترفع اقتصادهم واكتفاءهم الذاتي هناك وهي تلك المزرعة السمكية التي أدارها المثقفون علمياً.. وسألت البابا وقتها: كيف يجد الدير نفقات التشغيل لكل هذا المنتج المحتاج إلي عمالة دائمة؟ فقال لي: العمالة هنا بقوة الدير فالذي يعتكف في القلايات القلاية حجرة منخفضة السقف صغيرة جداً لها فتحة يادوب تكفي للدخول يتعبد فيها الرهبان، قال: الذي يعتكف في القلايات يقوم علي خدمة الإنتاج، الباقون ولعلمك الدير يصدر للقري التي حوله من إنتاجه بشكل يتوازن اقتصاده دائماً. وعند الغداء كانت لنا وليمة من أحد الفنادق الكبري في القاهرة فقلت له: لأ يا سيدنا احنا عاوزين ناكل من الأكل اللي بتاكلوا منه كل يوم!! فرد بروحه المرحة الذكية وبسرعة البديهة المصرية: احنا مابنكلش كل يوم!! كانت زيارة استكتبتني مقالة تحت عنوان »لو أديرت مصر مثل الأديرة لما استدنا« وكنا وقتها في أوائل الدين ولم يحدث أن تغول الغيلان والطامعين.. الذين أوصلونا إلي حد فساد كل شيء حتي الأنفس. حاورت البابا مرتين في التليفزيون الأول منذ أربعة أعوام في محطة O.T.V وكانت الفتنة الطائفية قد أصبحت مستقرة في هيكل الوطن فقلت له: هل تعتقد أن اسرائيل حينما اطمأنت لعدم الصراع العسكري بدأت تفتت الشعب المصري بالفتنة الطائفية؟ فرد بسرعة وبشجاعة الرهبان الذين لا يخشون إلا الله: وتقولي إيه حينما لا ينجح مسيحي واحد في انتخابات مجلس الشعب حتي في شبرا؟ وأسقط في يدي وعرفت جيداً أن البابا يعرف جيداً كيف تعمل الدولة بمعول الهدم بأسلوب عدم وجود مسيحي في أماكن صنع القرار أو حتي التواجد في أجهزة الدولة العليا مثل أمن الدولة أو أمن الرئاسة. وسألته في حوار آخر علي المحور منذ عامين: لماذا وصل عدد الكنائس في الخارج في عهدك إلي 83 كنيسة افتتحت بعدها كنائس أخري بعد أن كانت ثلاثاً؟ فقال بمصريته حتي النخاع: المسيحي المصري لا يستطيع أن يصلي صلاته الخاصة في كنائس الغرب فلنا في صلاتنا تراتيل فرعونية نلتزم بها وأنا أقصد ليس العبادات فقط ولكن للتواصل مع الوطن وعدم الذوبان في الشعوب الأخري وأن تكون مصر دائماً هي الحصن، ولتشابه أحداث تفجير الكنائس كان البابا لا يتكلم ولكن النخبة المثقفة في مصر كانت تعلم جيداً أن الدولة تعمل بآلية فرق تسُد وتضع بذور الفتنة مع تواجد التطرف الديني فيصبح الضرب يأتي بنتائجه كما حدث في نجع حمادي والكشح كان البابا يتعذب وهو يعلم جيداً ما يحدث بدليل رده علي سؤالي بما يحدث في الانتخابات وهي إشارة وأمر من الدولة بالتفرقة. وقد قلت لوزير الداخلية حبيب العادلي بعد استوزاره بشهور وكنت أعرفه جيداً حينما كان رئيساً لمباحث أمن الدولة.. قلت له: هل تريد أن تترك بصمة في وزارة الداخلية بعد أن تكمل مهمتك؟ فقال: ماذا تقصدين؟ قلت: عليك أن تعين لواء مسيحياً في أمن الدولة ولواء مسيحياً في رياسة مجلس الوزراء ولواء مسيحياً في قوة الحراسة في رئاسة الجمهورية. قال: فعلاً والله.. نحاول. وبعد انتظاري لعام كامل قابلته في مناسبة رسمية فسألته: لماذا لم تضع بصمتك التي قلت لك عنها؟ فقال وهو يلتفت حوله: ده قرار سيادي وليس قراري. وعشت الانتظار حتي علمنا أن القرار السيادي اندمج مع القرار الوزاري وباتت مصر تحت التفرقة، واستمر عذاب البابا من أجل مجتمع تعمد فيه إصابته في مقتل. وفي مطلع 1102 حدثت كارثة كنيسة القديسين والدولة في استقرار علي عرش وكراسي تحتها رماد من تحته نار. ولم نكن نعلم شيئاً عن السلفيين والذين كأنما كانت الحكومة تربيهم وتشبعهم ليتوحشوا وينفذوا ما يحدث من فرقة ونحن لا نتصور أن هناك مسلمين يجلسون فوق تراث خاص بهم يدعو إلي قتل النفس التي حرم الله قتلها والذين لم يدرسوا ولم يذاكروا جيداً أحاديث الرسول صلوات الله عليه أن من قتل ذمياً بغير حق حرمت عليه الجنة. ويتعذب البابا الذي درس الإسلام جيداً وآخي آيات القرآن وما نزل علي عيسي من الإنجيل. وتأتي فجيعة ماسبيرو ويصبح البابا في أمرين كليهما مُرّ إما الحقيقة المفجعة والشعب في حمي الجيش وإما السكوت المفجع والقتلي مثبوت قتلهم.. والمسيرة أو التظاهرة هي أول تظاهرة بعد الثورة بأمر أولي الأمر. وتتوالي عذابات البابا وهو في سن ليست في حمل هذا العذاب.. والعذاب الدائم بمشاكل الزواج الثاني والطلاق.. المشاكل الداخلية.. والعذاب الاجتماعي الذي لم نكن نسمع عنه بزواج مسلم من مسيحية أو زواج مسيحي من مسلمة.. وكأنما الشعب أصبحت أصابع الجريمة متفردة في العبث بمقدراته. وتصبح فجيعة ماسبيرو جزءاً من مآزق ثورة يناير.. وتأتي صلاة الخمسين ألف في كنيسة المقطم بما فيها من مسيحيين ومسلمين بلسماً للبابا قبيل عيد جلوسه لتمسح بعض العذاب فقد كانت من أجل مصر كلها.. ولا أجد أفضل ما أقوله لقداسة البابا أملاً في رأب الصدع سوي الآيتين 8 و9 من سورة آل عمران »ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد«.