كلمة حق قالها القضاء المصري في ظل عنفوان النظام السابق في قضية فضيحة حديد أسوان حيث أدان القضاء مؤسسات الدولة التنفيذية والاستثمارية والرقابية في عهد مبارك. وترجع إلي الوراء إلي أحداث قضية حديد أسوان وما روجت له وسائل الإعلام الحكومية عن اكتشاف مناجم الحديد الخام بجنوب أسوان والزيارات المكوكية للرئيس السابق إلي الموقع ودعوته إلي المستثمرين الأجانب للمشاركة في المشروع؟! وفي حكم تاريخي أصدرته محكمة الجنايات بالقاهرة في 11 يونيو عام 2002 في القضية رقم 1914 لسنة 0002 جنايات قصر النيل المعروفة بقضية حديد أسوان.. قضت فيها المحكمة ببراءة المتهمين في القضية وإدانة أجهزة الدولة ومؤسساتها وسياساتها الاقتصادية والاستثمارية في حكم أجمع شرفاء ومفكريها بأنه لو حدثت وقائعه في أي بلد في العالم لاهتزت بسببها أركان الحكم ولتمت الاطاحة بقيادات كثيرة في ذلك الوقت ممن يقفون في الصفوف الأولي من صناع القرار التنفيذي والسياسي والتي كان لابد ان يستتبع الحكم الصادر فيها وجوب اجراء التحقيق مع صناع مستقبل مصر السياسي والاقتصادي الذين وصفهم الحكم بالتخبط والفشل والقصور.. ورغم ذلك فقد إلتزم الجميع الصمت كأن شيئاً لم يكن. وظلوا علي كراسيهم مستمرون في الإسهام بانهيار وتردي الأوضاع الذي آلت إليه حالة البلاد قبل الثورة.. وقد آن الأوان لتكشف »الأخبار« عن وقائع هذه القضية ودور القضاء المصري في كشف جوانبها والافصاح عن فساد سياسات الدولة الاقتصادية والاستثمارية وفشل وتخبط أجهزتها ومؤسساتها في ظل عهد الرئيس السابق علي نحو ما هو مسجل بحيثيات الحكم القطعي والبات الصادر من محكمة جنايات القاهرة تحت رئاسة المستشار إسماعيل حمدي رئيس المحكمة وعضوية المستشارين بشير عبدالعال ومحمد أبوالعيون رئيس الاستئناف. فكان لنا هذا اللقاء مع المستشار اسماعيل حمدي رئيس المحكمة وعضو مجلس القضاء الأعلي السابق الذي أصدر هذا الحكم التاريخي. أولاً: ما هي وقائع وأحداث قضية حديد أسوان؟ بدأت أحداث هذه القضية عام 7991 عندما روجت وسائل الإعلام الحكومية وأبواق دعاية الرئيس السابق عن أنه تم في عهده اكتشاف عشرات من مناجم الحديد الخام بجنوب أسوان.. وهو الأمر الذي أكدته أبحاث هيئة المساحة الجولوجية وأساتذة كلية العلوم بجامعة القاهرة ووزارة البترول التي أكدت صحة هذه الاكتشافات وأنها ستعود علي البلاد بثروة هائلة من خام الحديد الذي سوف يحقق دفعة كبيرة للصناعة في مصر ويؤدي الي انتعاش الاقتصاد. وقد تبني الرئيس السابق محمد حسني مبارك هذه الأخبار التي نقلت اليه وقام بزيارة الموقع الذي زعموا له بوجود الحديد فيه عدة مرات ودعا المستثمرين الأجانب للمشاركة في هذا المشروع، وسرعان ما تحركت جميع اجهزة الدولة بالاجراءات التنفيذية وقام مجلس الوزراء بتشكيل عدة لجان برئاسة الدكتور عاطف عبيد وزير قطاع الأعمال والذي اصبح رئيساً للوزراء فيما بعد والدكتور سليمان رضا وزير الصناعة وكبار رجال الصناعة والبنوك وشركات التأمين لتكوين مجموعة مؤسسين لاستغلال الحديد الذي سيتم الكشف عنه وأسسوا شركة مصرية هي شركة أسوان للحديد والصلب برئاسة محمد بهجت ونائبه محمد الشيمي وتسابقت جميع مؤسسات الدولة وفي مقدمتها مجلس الوزراء وهيئة سوق المال وهي الاستثمار للترويج لهذا المشروع وسارعت للمشاركة في رأس ماله العديد من الشركات العالمية كشركة مانزمانهم الألمانية وشركة سيجيلك الفرنسية وإحدي الشركات الأمريكية والعديد من شركات قطاع الاعمال المصرية والبنوك ومنها شركة الشرق للتأمين وبنك مصر وبنك الاستثمار القومي وبنك فيصل الاسلامي وردد الجميع ليلاً ونهاراً ان مصر قد وضعت يدها علي أحد مصادر الثروة والدخل في العصر الحديث وان الرخاء قادم لا محال. وهل تم استخراج الحديد بالفعل وتصنيعه بعد جميع هذه الخطوات؟ للأسف لم يحدث هذا.. انما ما تم هو انه فجأة وبدون مقدمات تم الانقلاب علي المشروع الذي بشر به رئيس الجمهورية وحظيت جميع خطواته بموافقة مختلف مؤسسات الدولة ومنها مجلس الوزراء وهيئة سوق المال وهيئة الاستثمارات ليأتي وزير الصناعة الجديد في الحكومة الجديدة ليعلن لجميع وسائل الإعلام ان مشروع حديد أسوان هو مشروع وهمي لا جدوي منه وأنه ولد ميتاً وهنا بدأ الجميع في التنصل من جميع الموافقات والاجراءات والمساهمات المالية السابقة ونسوا دراسات الجدوي المقدمة من الجهات العلمية في مصر وضربوا عرض الحائط بمساهمات ومشاركات الشركات الأجنبية وأجهزة الدولة ومؤسساتها وتركوا معدات المصنع الذي تم استيرادها من الخارج وأهملوا أعمال البنية الأساسية للمشروع وتركوها في صحراء أسوان دون صاحب وكان لابد من ايجاد كبش فداء لما حدث من اهدار للمال العام وافقال لمصر سمعتها في المجال الاقتصادي العالمي فلم يجدوا سوي رئيس مجلس ادارة شركة أسوان للحديد والصلب ونائبه اللذين جري اتهامهما بأنهما لم يسددا مبلغ 45 مليون مارك ألماني للشركة الألمانية المشاركة في المشروع وتم احالتهما الي محكمة الجنايات بتهمة الاستيلاء علي المال العام والتربح منه والاضرار العمدي به. وفي المحاكمة تأكد للمحكمة من خطابات الشركة الألمانية الموثقة من السفارة المصرية ببرلين ومن الخارجية الألمانية وسفارتها بالقاهرة.. ان المتهمين قاما بسداد هذا المبلغ وانتهت المحكمة في حكمها السابق الإشارة اليه إلي براءة المتهمين. ما أوجه الفشل لأجهزة الدولة التي سجلها الحكم؟ جاء بأسباب الحكم ان هذه الدعوي عبارة عن مثال صارخ للتخبط والخلل والتراجع والفشل وغياب المنهج العلمي في صناعة واتخاذ القرارات التي تتصل بواقع ومستقبل مصر الاقتصادي.. ذلك أنه بعد صدور توجيهات رئيس مجلس الوزراء في حينه باصدار قرار تأسيس شركة أسوان للحديد والصلب وبعد صدور قرار رئيس الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة بالترخيص لهذه الشركة بتصنيع جميع أنواع الحديد الصلب ومشتقاته وتحويل المواد الخام ومعالجتها وتصنيعها.. وبعد استجابة الشركات العالمية والمصرية إلي دعوة الحكومة للإسهام في تلك الشركة ومبادرة كبري الشركات المصرية كشركة أوراسكوم للإنشاء والصناعة ومصر للتأمين وبنك مصر وفيصل الاسلامي وبعد اجتماع مجلس إدارة بنك الاستثمار القومي برئاسة وزير الدولة للتخطيط والتعاون الدولي وفي حضور ممثلي البنك المركزي المصري ووزارة المالية والهيئة العامة للإستثمار ووزارة التأمينات والجهاز المصرفي ورئيس إدارة الفتوي برئاسة الجمهوري ومباركة الجميع واقرارهم الموافقة علي مساهمة بنك الاستثمار القومي بنسبة 51٪ من رأس مال شركة حديد أسوان.. وبعد بدء العمل في المشروع وقيام الجهات والهيئات الحكومية وتنفيذ المرافق والبنية الأساسية وقيام الرئيس المخلوع حسني مبارك بزيارة الموقف والاحتفال بما يتم فيه من انجازات.. تمت احالة التراب علي كل ما تم من اعمال. تحسين المناخ وانتهت المحكمة في أسباب حكمها.. إلي ان تحسين مناخ الاستثمار في مصر لا يتحقق بما تحشده القوانين من اللوائح من مزايا وحوافز للمستثمرين بقدر ما يتطلب من سياسة استثمارية تتوافر لها أسباب الثقة والوضوح والاستقرار وتطبق علي يد أجهزة واعية بأهداف هذه السياسة.. فالمستثمر لا يقنع بحسن النوايا التي تعكسها نصوص القوانين بقدر ما يهمه ترجمتها العملية علي يد ادارة مؤهلة. ويبقي السؤال من المسئول عن إهدار المال العام الذي تمت المشاركة به في مثل هذا المشروع الوهمي ومن المسئول عن الاحباط الذي أصاب المواطن المصري صاحب الحق الأصيل في مستقبل أفضل.