من يتابع التطورات الإقليمية بدقة وتمعن يدرك تماماً أن المشروع الذي احتضنته تركياوقطر منذ سنوات مضت يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة، ولن تفلح في الإبقاء عليه الأموال والأسلحة التي تضخ في الفترة الراهنة سعياً للإبقاء عليه أو حتي جعل أطرافه جزءا من المشهد السياسي في دول المنطقة. هذا المشروع يتكئ بالأساس علي فكرة تمكين تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي من الحكم في دول عدة منها ليبيا والسودان، ولكن ما حدث أنه الآن يتلقي الضربات الأخيرة في طرابلس إثر تقدم الجيش الوطني الليبي لتطهير أراضي البلاد من تنظيمات الإرهاب والمتطرفين الموالين للإخوان والقاعدة وداعش وغيرها من تنظيمات الإرهاب، كما جاء انهيار حكم تنظيم الإخوان المسلمين في السودان ليؤكد نهاية المشروع التركي القطري في المنطقة. لم يقرأ النظام القطري التاريخ جيداً ولم يستوعب دروسه، وواصل هدر ثروات موارد الشعب القطري علي تنفيذ رهانات فاشلة من الأساس، ولم يستوعب تحديداً درس فشل حكم الإخوان المسلمين في مصر وهزيمته علي يد الشعب المصري الذي لفظ الجماعة واستفاق نابذا حكمها بعد انكشاف أهدافها الحقيقية، أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد دفع ثمن رهاناته علي حكم الإخوان غالياً من شعبية حزبه التي انهارت في الانتخابات البلدية الأخيرة، بعد أن انحرف المسار من العمل التنموي الذي لعب دور الرافعة الاستراتيجية القوية لحكم »العدالة والتنمية»منذ نحو خمسة عشر عاماً، إلي التدخلات الخارجية والسعي لتنفيذ مشروع هيمنة امبراطورية انتقلت بالسياسة الخارجية التركية من استراتيجية »صفر مشاكل»إلي الانزلاق والتورط في كل مشكلة أو أزمة إقليمية، حيث باتت تركيا طرفاً في كل أزمات المنطقة! لم يكن من المنطقي أن يواصل النظام القطري والتركي الرهان علي نفس الأدوات التي ثبت فشلها وانحسار دورها وثقة الشعوب فيها، فكانت ليبيا والسودان أحدث الدلائل علي انفصال شعوب المنطقة تماماً عن هذه الأجندة المشبوهة، فجاءت النتيجة دماراً وخراباً للكثير من الاستثمارات التركية التي كانت قد حققت الكثير من الثمار والنتائج الإيجابية، ولاسيما علي صعيد القوة الناعمة وفي مجال الثقافة بأدوات الدراما التركية وغيرها، ناهيك عن الارتفاعات القياسية في الصادرات التركية للدول العربية في السنوات العشر الأخيرة، ما يثبت أن الأولوية لدي نظام أردوغان ليست لمصالح تركيا والشعب التركي بل لمصالح جماعة الإخوان المسلمين، التي تمثل مرجعية أساسية لقراراته في الفترة الأخيرة، بعد أن توهم أنها يمكن أن تكون سنداً له لاستعادة الماضي الامبراطوري! لم يكن طبيعياً او منطقياً أن تتوقف الدول العربية الفاعلة عن التصدي للمشروعات التدميرية في المنطقة، سواء تلك التي تقودها إيران في اليمن وسوريا والعراق وغيرها، او تلك التي تتصدرها قطروتركيا باستخدام تنظيمات الإرهاب وتوظيفها لمصلحتها في ليبيا وغيرها، وقد حقق التعاون السعودي المصري الإماراتي، نجاحات واختراقات كبيرة في ردع المشروعين معاً، والحيلولة دون انقضاض القوي الإقليمية علي ما اعتبره جسداً مريضاً، باستغلال ماعرف ب»الربيع العربي»وأدوات ومنابر قطر الإعلامية وأموالها التي أهدرت منها المليارات في السنوات الأخيرة في تمويل وتسليح الميلشيات والتنظيمات سواء بالأسلحة أو بالأدوات الإعلامية التي تضخ فيها مليارات الدولارات من أجل تحريض الشعوب العربية علي أنظمتها. الشعب السوداني صاغ بإرادته الحرة أحدث حلقات الاستفاقة العربية للخروج مما يدبر له قطرياًوتركياً، حيث أدرك هذا الشعب الواعي، الذي يمتلك نخباً سياسية قادرة علي توجيه بوصلة السودان نحو مرافئ آمنة تحقق الاستقرار والتنمية للشعب السوداني، وأدرك ضرورة الابتعاد عن قطر واجندتها، وثبت أن اختلاف وجهات النظر بين مكونات المشهد السوداني في اللحظة التاريخية الراهنة، لا يجب أن يوفر منفذا لتسلل قطروتركيا مرة أخري للعبث بمنجزات الشعب السوداني الذي خرج محتجاً علي تلك الأجندة التي تسببت فيما آلت إليه الأوضاع المعيشية والتنموية في البلاد. هزيمة المشروع القطري التركي، قد لا تعني بالضرورة نهايته، ولكنها توفر إجمالاً مؤشرات إيجابية جديدة للشعوب العربية، التي توحدت إرادتها في مواجهة هذا المشروع المدمر، ولكن هذه النهاية هي بحد ذاتها دافع للحذر مما هو آت، لأن تصرفات القائمين عليه بدت في الآونة الأخيرة هوجاء لا تعرف للعقل والمنطق طريقاً، ومن الوارد أن يلجأ النظام القطري إلي خيارات انتحارية في مواجهة هذا الفشل ليس لإنقاذ مشروعه الذي سقط بالفعل، ولكن لإرباك الجميع ومحاولة خلط الأوراق لعل وعسي أن يسفر هذا الإرباك عن مخرجات قد يتم توظيفها لمصلحة الأجندة القطرية التركية في المنطقة. ولا يجب أن ننسي أن النظام التركي يعيش انتكاسة استراتيجية كبيرة، فهناك صدام مع الولاياتالمتحدة بسبب صفقة شراء صواريخ إس 400 الروسية، وهناك احتمالية عالية لتصدعات كبيرة في العلاقات التركية الأمريكية، وهناك هزيمة مذلة في ملف مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث انطوت تماماً صفحة القضية بمعالجة حكيمة من القيادة السعودية الهادئة والأكثر استيعابا لأبعاد المخطط التركي، فنجحت في تقويضه تماماً ولم تجد تركيا سوي محاولة إحياء الموضوع باتهامات طائشة لأشخاص مجهولين بعلاقة ما بمقتل خاشقجي والتجسس لمصلحة الإمارات!