لا خلاف حول ان الاقتصاد المصري كان يعاني الكثير من أسباب الضعف قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، خاصة منذ وقوع الأزمة العالمية 8002، فمعدلات النمو اتجهت نحو الانخفاض، كما ان حدة عدم عدالة توزيع الثورة والدخل تزايدت وتفاقمت، وصاحب ذلك زيادة معدلات البطالة، وارتفاع معدلات التضخم، واتساع فجوة العجز في الموازنة العامة وفي الميزان التجاري.. إلخ. وبعد قيام الثورة كان من الطبيعي ان يتعرض الاقتصاد لقدر من الاضطرابات خلال المرحلة الانتقالية. فمن الطبيعي ان تسود حالة من التراقب، بل ومن القلق، لدي متخذ قرار الاستثمار ولدي من يمارسون مختلف أوجه النشاط الاقتصادي، فيقللون من نشاطهم الي ان تستقر الاوضاع الاقتصادية واقامة المؤسسات الداعمة للديمقراطية. هذه الاضطرابات قد وقعت بالفعل بعد الثورة، وظهرت بوضوح في قطاع السياحة وقطاع الاستثمار الاجنبي والمحلي المباشر منه وغير المباشر، وفي قطاع ميزان المدفوعات، وكان لكل ذلك آثاره السلبية علي حجم الاحتياطي بالبنك المركزي، وعلي عجز الموازنة العامة.. إلخ. وبعد مرور ما يقرب من ثمانية أشهر منذ قيام الثورة لنا ان نتساءل عما اذا كان ما حدث من اضطرابات علي أرض الواقع قد تجاوز ما هو طبيعي أم لا؟ واذا كان هناك تجاوز فما الاسباب التي ادت الي هذا التجاوز، ومن المسئول عنه؟ وما السياسات والاجراءات التي يتعين اتخاذها للحد من هذا التجاوز، وصولا الي انهاء المرحلة الانتقالية واستقرار الاوضاع السياسية الديمقراطية؟ وفي اعتقادي، ويتفق معي الكثيرون من ابناء هذا الوطن، ان ما حدث من اضطرابات في الاقتصاد المصري خلال الثمانية اشهر الأخيرة قد تجاوز ما هو طبيعي بل احيانا ما هو معقول، ومن شأنه ذلك ان يقلل الي حد كبير من قدرات الاقتصاد علي التعافي والانطلاق في وقت قريب. ودليل ذلك الرجوع الي ارقام المتغيرات الاقتصادية الرئيسية حيث يستمر تدهورها، وعلي نحو ينذر بالخطر، وفي مقدمتها ارقام الموازنة العامة وميزان المدفوعات، وحجم الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة خاصة الاجنبية والعربية منها، وحجم البطالة وحجم التضخم.. إلخ. ويؤكد ذلك الرجوع الي تصريحات كل من السيد د. نائب رئيس الوزراء ووزير المالية والسيد د. محافظ البنك المركزي اذ تحدثا عن حاجة الاقتصاد وحتي يتعافي ويعاود الانطلاق الي ما لا يقل عن سنة، وفي قول آخر ما لا يقل عن 81 شهرا وربما سنتين. فعجز الموازنة العامة قد تجاوز الحد الآمن ليصل الي ما يزيد علي 01٪ من الناتج القومي، وللأسف فإن سياسات تغطية هذا العجز تتم عن طريق الحد من بند الاتفاق الاستثماري أساسا، وعن طريق مدخرات القطاع العائلي أساسا بما يقلل من المتاح للاستثمار ويؤخر امكانية التعافي والانطلاق. وأرقام العجز في ميزان المدفوعات قد تفاقمت لتصل وفقا لما نشر أخيرا الي حوالي 7.9 مليار دولار، وهو رقم لم يحدث من قبل، ومن شأنه ان يزيد من انخفاض الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي. وآخر ما نشر من ارقام عن السياحة يشير الي انخفاض عدد السائحين في الربع الثاني من هذا العام بما لا يقل عن الثلث مقارنة بالعام السابق. وما يصدق علي الموازنة العامة وميزان المدفوعات والسياحة يصدق ايضا علي ارقام البطالة والتضخم والاستثمار المباشر وغير المباشر.. الخ، وكلها ارقام تؤكد تجاوز الاضطرابات الاقتصادية الحد المعقول وتنذر بتفاقم الخطر. ولكن ما السبب الحقيقي وراء هذا التجاوز غير المعقول؟ ومن المسئول عنه؟ وكيف يمكن علاجه؟ اسئلة في غاية الاهمية يتعين ان تتم مناقشتها والحوار حولها علي نحو علمي وموضوعي. بعيدا عن المزايدات الحزبية والرغبة في الاستحواذ علي ثمار هذه الثورة المجيدة. واذا أردنا التعرف علي الاسباب الحقيقية لهذا التجاوز، فإننا نوجزها فيما يلي: أولا: ما تعاني منه مصر حتي الآن من انفلات أمني غير مسبوق، حيث تتكرر اعمال البلطجة والسرقة بالإكراه وترويع المواطنين وتتعدد مظاهر عدم احترام القوانين، وحالات الفتنة الطائفية وتردد الكثيرون من رجال الامن في التدخل لوقف هذه الظواهر بفاعلية وحسم. وما يؤدي اليه ذلك من زيادة درجات عدم الاستقرار والثقة وهما اخطر ما يهدد قرار الاستثمار. ثانيا: تكرار وتفاقم حالات المطالب الفئوية والعمالية وما يصاحب ذلك من اعتصامات وتظاهرات والاضراب عن العمل، بل واحيانا الاعتداء علي المرافق والمنشآت العامة والخاصة، ومع التقدير الكامل للاسباب التي تدعو هذه المجموعات للمطالبة بتحسين اوضاعها المعيشية حيث تعاني من عدم ارتباط دخولها مع معدلات ارتفاع الاسعار، وحيث تعاني من عدم صرف حوافزها بحجة العجز في الموازنة العامة، وحيث تعاني مما شاع في الاقتصاد قبل الثورة من تفاوت وعدم عدالة غير مسبوقة في الاجور والمرتبات بلا مبرر من الكفاءة أو المؤهل، وازدياد الفجوة بين الحد الادني والحد الأقصي للاجور حيث تجاوزت النسبة في بعض القطاعات الحكومية والقطاع العام والهيئات العامة ما يزيد علي مائتي ضعف، وقد تزيد علي ذلك في بعض شركات ومؤسسات القطاع الخاص، خاصة العاملة في القطاع المصرفي والقطاعين المالي والاتصالات، مع تقديري لكل هذه الاسباب، الا ان هناك ما يدعوني ويدعو كل مخلص لهذا الوطن الي التحفظ، واحيانا الاعتراض، علي توقيت هذه المطالبات، وما يتبع من اساليب عنف واعتداء علي النفس والمال العام والخاص، من اجل تحقيقها. ان الاستجابة الي هذه المطالب في الوقت الحالي الذي تعاني فيه الموازنة العامة من عجز، وفي وقت يسود فيه الكساد لضعف معدلات الاستثمار والانتاج لا يمكن ان يتحقق الا علي حساب القدرة علي استعادة الاقتصاد لطاقاته الانتاجية والاسراع بتحقيق تعافيه وانطلاقه.. فلتصبر هذه المجموعات حتي يتعافي الاقتصاد وينطلق الانتاج فيوزع العائد المتزايد بعدالة علي الجميع ويصحح الخلل في هيكل الاجور. ثالثا: الأخطاء المتزايدة في سلوكيات واولويات القوي السياسية النشطة علي الساحة المصرية بعد الثورة. فالقوي السياسية التي اشعلت شرارة الثورة لم تنجح في التجمع حول قائد لها وحول ايدلوجية وفكر واضح، وتشتت وتبعثرت في مجموعات لم يعد المواطنون بقادرين علي التعرف علي اسمائها وقادتها وما تنادي به من مباديء. كما تركزت اولويات مختلف القوي السياسية، سواء في ذلك القوي التي اشعلت شرارة الثورة أو قوي التيار الاسلامي او قوي الاحزاب القائمة قبل الثورة سواء تلك التي كانت تقوم بدور المعارضة الحقيقية. أو كانت تقوم بدور استكمال الديكور الديمقراطي. أقول تركزت أولوياتها في كيفية الاستحواذ علي مغانم الثورة عن طريق الاقصاء والاستبعاد للقوي المنافسة التي يحتمل ان تنافس علي مقاعد مجلسي الشعب والشوري، وشاهدنا اتجاها لاقامة تحالفات بين قوي متناقضة فكريا، مما يضر ويفسد عملية الاختيار الديمقراطي، وتنتهي بالناخب الي ان يدلي بصوته ليس ايمانا بمبدأ، حيث تتعدد مباديء من تشملهم القائمة النسبية، ولكن انتماء لشخص واملا في الحصول علي مال أو خدمة شخصية. واذا اقتنعنا بأن ما حدث من اضطرابات اقتصادية بعد الثورة يتجاوز ما هو عادل ومقبول، واذا اقتنعنا بالاسباب التي ادت الي هذا التجاوز، فان من الضروري ان نبحث عن المسئول عن هذا التجاوز، وان نبحث عن السياسات والاجراءات التي يتعين اتخاذها للحد من هذا التجاوز. وعلي ضوء ما ذكرناه من اسباب لهذا التجاوز يمكن تحديد المسئول عنه. فالانفلات الامني والمغالاة في المطالب الفئوية وتعدد الاضرابات والاعتصامات هي اساسا مسئولية المؤسسات الحاكمة وهما مجلس الوزراء والمجلس الاعلي للقوات المسلحة، اما عن السلوكيات الخاطئة للقوي السياسية فهي مسئولية هذه القوي ومن يشايعها من الاعلاميين وغيرهم. أما عن السياسات والاجراءات التي يتعين اتخاذها للحد من هذا التجاوز، فيأتي في مقدمتها سياسات واجراءات تحقيق الاستقرار الامني، فلا سبيل لتحريك الاستثمار وعجلة الانتاج دون شعور المستثمر بالأمن والاستقرار.. هذه بديهة لا تحتاج الي جدل.. ولا تحقيق للاستقرار الامني الا اذا عادت الثقة بين الشعب والشرطة، واستعاد جهاز الشرطة لدوره الوطني مع توفير الامكانات الضرورية للقيام بمهامه. اما عن المطالب الفئوية فلابد من التعامل معها من موقف مبدئي، مؤداه اننا في مرحلة انتقالية والاضطرابات الاقتصادية قد تجاوزت ما هو عادي ومعقول، وان مهمة الحكومة في هذه المرحلة هي فقط دراسة هذه المطالب وتحديد عدالتها واولوياتها. ان الاستجابة اليها هي مهمة الحكومة التي ستفرزها الانتخابات القادمة حيث تتحرك عجلة الانتاج ويتحقق الفائض الذي يتم توزيعه بعدالة بين فئات المجتمع المختلفة. ووفقنا الله لها في خدمة مصر وشعبها