هل العقلانية ممكنة الآن في العالم العربي بينما تتجه الساحة الدولية أكثر فأكثر نحو اللا عقلانية؟ هناك من يصرون علي أن نتبع صاغرين نمط حياة معينة ونمطا ثقافيا محددا بينما تتنامي كل أشكال التطرف والغطرسة ويتسع نطاق انتشار اللا معقول واللا عقلانية حتي أصبح عالمنا العربي يعاني من فقر فكري وجدب عقلي بحيث أخذ البعض يتساءل عما إذا كان العقل العربي يميل إلي الكسل. وإذا كان سلفيون قدماء قد قالوا: »من تمنطق تزندق»! أي أن كل من يستخدم المنطق أو يفكر بطريقة منطقية يصبح في دائرة الكفار»!» فإن ذلك يعني ان ثمة معركة شرسة يخوضها أصحاب هذه المقولة لخنق الاتجاه العقلاني وارغامه علي التراجع والضمور حتي لا يكاد يري بالعين المجردة. والعقلانية تبدأ من لحظة فهم وتفسير العالم بمقتضي العقل والعلم، وتعني التسامح والتآلف والديمقراطية وفصل الدين عن السياسة والتفاعل بين التيارات المختلفة. وإذا كانت العقلانية قد توقفت في العصر المملوكي أو المغولي وظلت لقرون في حالة احتضار، فهل تستطيع ان تسترد أنفاسها وتعود إلي نهوضها أم اننا سنبقي في حالة الردة والغيبوبة.. ونظل نحاول الاجابة علي اسئلة عفي عليها الزمن.. وندور في حلقات مفرغة بعد ان أصيبت العقول بالتبلد والضياع؟ لماذا لا ننفتح علي كل الأفكار والتيارات ونأخذ منها ما نأخذ وترفض ما نرفض بدلا من أن نظل في حالة تقوقع حول أنفسنا.. والحجة هي أن لدينا تراثنا؟ قد تكون في كتب التراث أفكار بناءة تفيدنا في حياتنا المعاصرة، إلا اننا قد نجد في بعضها الآخر آلاف الأخطاء والخرافات. زماننا الآن غير زمان أجيال سابقة. ونحن بشر، وهم مثلنا كانوا بشرا، فلماذا يصر بعضنا علي الوقوف عندهم، رغم اننا نعرف ان أفكارهم لا تعبر إلا عن عصورهم، وقال أصحابها ما قالوه لمقتضيات زمانهم ومكانهم. صدق المفكر الاسباني »ثارا جوثا» في كتابه نظرة في مستقبل البشرية، عندما قال إن »الخطر العظيم الذي نواجهه اليوم لا يكمن فقط في تلوث البيئة التدريجي، وإنما أيضا في تلوث العقول» اننا في حاجة إلي ثورة فكرية تخلق إنسانا عربيا جديدا، وتوجد نظاما ثقافيا عربيا جديدا. أين نحن الآن مما قاله الشيخ محمد عبده من انه »وإذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الايمان من وجه واحد حمل علي الايمان ولا يجوز حمله علي الكفر». وأين نحن الآن مما قاله شيخنا العملاق من انه إذا تعارض العقل والنقل.. يؤخذ بما يدل عليه العقل ويتم تأويل النقل ويرفض الشيخ توسيط أحد من سلف ولا خلف.. فالاجتهاد، في رأيه، يجب أن ينبع من حالة العصر ويعبر عنه، وليس هناك أي اجتهاد ملزم في جميع العصور.. فمتي انقضي العصر، وزالت مقتضياته، زال معها ما يخصه من الاجتهاد. فالإنسان لم يخلق لكي يقاد بالزمام بل فطر علي أن يهتدي بالعالم.. فالعلم والعدل هما الأساس إذا كنا سنتخذ العقل أداة لايقاظ الوعي والضمير هذا ما علمنا إياه الشيخ محمد عبده من دروس ثمينة قبل مائة وعشرين سنة.