الحوار مع الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي قد يأخذك إلي طرق عدة. فصاحب "مدينة بلا قلب" له صولاته وجولاته ومعاركه وآراؤه التي تصطدم مع الماضي والحاضر والتي تؤثر بطبيعة الحال في رؤاه حول المستقبل. يقرأ حجازي اللحظة في قصائده الثلاث التي كتبت بعد الثورة وصدرت في ديوانه الأخير "طلل الوقت" بعيون الشاعر ويقرأه معنا في الحوار بعيون مثقف وناقد للواقع. قلت للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي أنني احاوره في إطار محاولة قراءة ما يحدث باعتباره مثقفًا مصريًا شارك في الحياة العامة خلال حكم ثلاثة رؤساء وأننا لسنا بصدد حوار ادبي عن أعماله الشعرية ابتسم قائًلا: ليس هناك فاصل بين ما هو فكري وسياسي وبين ما هو أدبي. وقد بدأنا حوارنا بالفعل من هذه المنطقة المتشابكة فسألته: يري البعض أن المثقف خلال الثلاثين عامُا الأخيرة كان غير فاعل وقابل للاندماج مع السلطة؟ هذا غير صحيح وتزييف للواقع. انظري إلي تضحيات المثقفين خلال السنوات الماضية من أمثال فرج فوده الذي اغتيل علي يد الاسلاميين. أليسوا هم صنيعة النظام! أنا لا أميز بين الاسلاميين والنظام لأن النظام استخدم الاسلاميين لكي يظل في السلطة ولكي يقاوم المثقفين الذين دعوا دائما للديمقراطية ولحرية التفكير، علي سبيل المثال السلفيون والأخوان المسلمون لديهم مستشفيات ومدارس ومصانع وكل هذا تحقق في أيام السادات ومبارك. ومؤسسات النظام والصحف القومية والأزهر ومناهج الدراسة شاركت في سيطرة الاسلاميين وصناعة التطرف والتشدد. قرأت كتبًا مقررة علي التلاميذ تعلمهم التطرف والتشدد. فلنر كيف تحقق انقلاب 1952 بتحالف ما سمي بالضباط الاحرار والأخوان المسلمين وربما انتهي الحلف لكن ظل النظام يستخدم الدين.النظام سمح بذلك لأنه لن يغير نفسه ولن يحقق ديمقراطية حقيقية. اسمح لي أن أكون لسان حال البعض وأقول انه قد يكون هناك بعض التجني في هذا الطرح لأن التطرف يمكن أن يكون في أي اتجاه ولا يمكن أن نصم به اتجاهًا بعينه فقط. وأيضا لأن الاسلاميين كانت تعج بهم المعتقلات في عهد مبارك وكذلك لأن الأخوان مثلا كفصيل ذكرته كان من المشاركين في الثورة؟ لا اتفق مع ذلك استخدام الدين في السياسة في حد ذاته تطرف فلا الليبراليون ولا العلمانيون انشأوا منظمات إرهابية في مصر لكن أصحاب الإسلام السياسي استخدموا العنف وانشأوا منظمات إرهابية والوقائع كثيرة. التطرف هو حمل السلاح لإجبار الآخرين علي الامتثال لاعتقاد المتطرف أنه يملك الحقيقة المطلقة لكن السياسة هي الحوار والاحتكام للناخب. والعنف هو سياسة النظام أيضا لانه يرغمك علي قبوله عن طريق استخدام أجهزة الأمن والمباحث العامة والتعذيب مثل الاسلاميين الذين يريدون ارغامك علي أفكارهم ولهذا ليس غريبا أن يتفق النظام الديكتاتوي والنظام الديني. ألا تجد أن دخولهم لمرحلة الممارسة السياسية العلنية أكثر جدوي للجميع؟ لا.. أرفض الربط بين الدين والسياسة بأي صورة سواء في العلن أو الخفاء. خلط الدين بالسياسة هو إرهاب في حد ذاته. فأنا لو خالفته يبقي بخالف الاسلام فكيف أناقشه. وأعتقد ان الأسلوب الوحيد المقبول في علاقة الدين بالسياسة هو أن ينظر للدين باعتباره قيمًا ومثًلا عليا اخلاقية وروحية. لكن تقديم الدين باعتباره نصوصا لو لم أقبل تطبيقها أكون بذلك خارج الإسلام أمر غير مقبول. بعد ثورة 25 يناير نتحدث عن دولة تقوم علي مبدأ المواطنة. الدين له مكانه في دور العبادة لكن في علاقتي أنا بالأخر لا علاقة للدين بالأمر. انا لا أقصي أحدا لكني أضع دستورا يضمن لي أن تكون الدولة مدنية وديمقراطية وأن تكون المواطنة اساس العلاقات بين الشركاء في الوطن. الذي يتفق معي في المباديء الأساسية وينبذ أسلوب التكفير في العمل السياسي والذين يتقبلون النقاش ويتحلون بالحكمة ويؤمنون بأن الوطن هو وطن الجميع فان يتقبل الاسلاميون ذلك ويعلنون انهم لن يلجأوا للعنف والإرهاب ويدينون العنف والإرهاب ويؤكدون علي إيمانهم بالمباديء الأساسية للدولة المدنية التي لا يخلو منها اي دستور ويكون لدينا اسلاميون في مصر مثل الأتراك علي عيني وراسي. أو مثل الذين في اندونسيا وماليزيا أهلًا وسهلًا. لكن اسلاميين وهابيين لقطع الأيدي والرقاب فلا أقبل أبدًا. أعود لسؤالي عن المثقفين المصريين الذين ربما واجهوا سيطرة الاسلام السياسي والإرهاب الفكري لكني أتحدث عن مواجهة السلطة السياسية في مصر خلال الثلاثين عامًا الماضية. فهناك من يعقد المقارنة بين دور المثقف في عهود رؤساء مصر الثلاثة ويجدون غيابًا لدور المثقف في مواجهة السلطة خلال عصر مبارك؟ هناك مثقفون مدجنون ومرتشون عن طريق وظائف ومرتبات ضخمة وخلافه لكن عامة المثقفين المصريين كان لهم دور كبير في كل الفترات التاريخية التي مرت بها مصر ومنها فترة حكم مبارك. لكن هناك فرقا في اسلوب التعامل من جانب السلطة فالذي كنا نكتبه في صحف النظام لم نكن نستطيع كتابته في عهد عبد الناصر. وعلي سبيل المثال. أول من طالب مبارك بالديمقراطية هو أحمد عبد المعطي حجازي علنا في الملتقي الثقافي العربي الاول الذي عقد في القاهرة سنة 1982 وكان من شهود الواقعة جابر عصفور علي سبيل المثال. لكن عبد المعطي حجازي تولي رئاسة مواقع ثقافية رسمية مثل مجلة إبداع ولجنة الشعر في المجلس الاعلي للثقافة.. وهناك من يري ان مشاركة المثقف في اي عمل داخل المؤسسة الثقافية الحكومية نوع من التدجين.وكذلك أن المثقف لابد أن يكون علي مسافة من المؤسسة الثقافية الرسمية؟ استطيع أن اتفهم عزوف المثقفين عن المشاركة في الحياة الثقافية الرسمية لكن لم يحدث أن كانت هناك مؤسسة ثقافية منذ اوائل الستينيات للآن خارج سلطة الدولة لان انشاء وزارة الثقافة أدي لتأميم دور النشر والمسرح والسينما حتي أواخر عهد السادات كانت تحت إدارة وزارة الثقافة وكذلك الأوبرا من الأصل والمجلات الثقافية قبل فترة قريبة لم يكن مسموحًا باستصدار رخصة لأصدار مجلة ثقافية تقريبا. لهذا لجأ الكتاب في السبعينات مثلا لمجلات الحائط. إذن لم يكن أمام المثقف المصري إلا العمل في مؤسسات وزارة الثقافة. من زاوية أخري هل المؤسسات المستقلة بعيدة عن السلطة؟ يعني مثلا بعض دور النشر المستقلة التي كانت تتعاون مع الهيئة العامة للكتاب في مشروع مكتبة الأسرة هل هي بعيدة عن السلطة؟ وغير ذلك الكثير. كبريات دور النشر في مصر كانت مشاركة بصورة مبالغ فيها في مشروعات ارتبطت بالنظام حتي أن احدي تلك الدور كانت تعد كتابا عن سوزان مبارك وانجازاتها وفضائلها وعندما قامت الثورة أشرفت تلك الدار علي فرم النسخ المطبوعة بنفسها. اي ان ما يسمي بالمؤسسات الخاصة تشارك الحكومة في الاستيلاء علي المؤسسات الثقافية فاين يذهب المثقف وأين ينشر الكاتب وهو في كل الاحوال في قبضة السلطة؟ الاعتبار الأخر أنا اميل علي محاسبة المثقف علي ما يكتبه او ينشره وليس علي الجهة التي ينشر فيها او يعمل فيها.. استقلال المثقف يعتمد أولا علي ما يكتبه اولا ولكن قد يستحسن باستمرار أن تكون المؤسسات الثقافة مستقلة بمعني الكلمة حتي يكون المثقف دائما مستقلًا ولا يضغط عليه قط لذلك فالدول الديمقراطية ترفض انشاء وزارة ثقافة. من خلال تجربتك.. هل المؤسسات التي عملت بها في فترة وزارة فاروق حسني كانت حرة مستقلة ام أنها مؤسسات صنعت في الأساس ل حتواء المثقفين داخل حظيرة النظام؟ طبعا هذه المؤسسات الثقافية منذ استولت عليها السلطة في 1958 حين انشأت وزارة الثقافة إلي اليوم كانت باستمرار في خدمة السلطة. لم يكن فاروق حسني يقول لكاتب ماذا يكتب لكن المؤسسة كلها تكرس لخدمة السلطة فالسلطة يمكن أن يخدمها كاتب يمدح الرئيس بصراحة لكن أيضا المشاركة في مهرجان يقدم باعتباره دليلًا علي نشاط ثقافي عظيم لم يتم إلا في عهد الرئيس الفلاني أو الوزير العلاني أيضا يخدم السلطة أي ان خدمة السلطة ليس لها وجه واحد. لم أقل انني كنت زعيمًا ثوريًا في عهد مبارك لكني كنت انتقد ما يجب نقده ولا أنافق مسئولا ولا اكذب علي القاريء وما أريد قوله أوضحه بهدوء فلست زعيما في مظاهرة. في إطار المراجعات.. تراجعت عن موقفك تجاه السلطة في عهود سابقة مثل موقفك من جمال عبدالناصر مثلا؟ ما الذي تغير في عهد السادات بهذا الصدد وجعلك تنتقد التجربة الناصرية وتقول ان ثورة يوليو انقلاب عسكري مما حمل البعض انتقاد هذا التحول آنذاك؟ هؤلاء حزبيون لهم مصالح مرتبطة بهذه الأفكار. أنا رأيت ان موقفي الماضي غير صحيح وما اعتقدت ثورة. والدليل انها لم تحقق الأهداف التي وعدت بها مثل الديمقراطية ودخلت في مغامرات عسكرية غير محسوبة عدة مرات اعطت الاسرائيليين الفرصة لهزيمتنا.ورفعت شعار الاشتراكية ولم تحقق الاشتراكية وفقط استولت علي مزارع وأراضي الطبقة المتوسطة والغنية دون أن تمكن الفلاحين والعمال من تحقيق وجود فعلي أو تحقق لهم عدالة حقيقية عن طريق الانتاج والتنمية وغير ذلك. ما كنا نعتقد انها ثورة اتضح انها ليست ثورة. واتضح ذلك من اوائل الستينيات ويمكنك مراجعة قصائدي في الستينيات لتري انتقادات كثيرة ونشرت في جريدة الاهرام مما يعني انني قمت بواجبي قدر استطاعتي. وماذا عن ثورة 25 يناير كيف تري ما حدث والاتجاه الذي تسير إليه؟ كل شيء جائز. فهناك خطر سرقة الثورة من الجماعات الاسلامية وفرض حكم وهابي لان الذين رفعوا العلم السعودي في التحرير يفكرون في ذلك وحين نرفع شعار دولة مدنية فيرفضونه. ايضًا هناك خطر أن يستولي بعض الضباط علي السلطة. وهناك ألف حجة مثل البلطجة وانعدام الامن وتنازع من يمثلون الثورة إلي اخره. هذا كله يمكن ان يكون حجة للعسكريين وعامة الناس الذين لن ينظروا إلي مغبة هذا تحت زعم الحاجة للأمان. وأريد أن أقول أن نظام 1952 مازال قائما حتي الآن ولن ينتهي إلا بدستور يعيد السلطة كاملة للأمة المصرية بحيث أنه لا يكون هناك مؤسسة خارج الرقابة الشعبية وهذا ما هو قائم في كل الدول الديمقراطية. انا لا أشك في وطنية أي مصري سواء عسكريا او مدنيا لكن الديمقراطية نظام ومؤسسات ومباديء وقوانين. وبما أن كل شيء جائز فالمطلوب اليقظة والتأكد ان كل خطوة تؤدي للهدف الذي اعلنته الثورة. نحن نتحدث عن انتخابات في أخر الشهر فهل نحن متأكدون أن هذا يمكن أن يؤدي إلي برلمان ممثل للمصريين ولا يثير مخاوفهم. لابد أن نعرف ان الألمان انتخبوا هتلر هذا الرجل الذي ساق العالم للمذابح والإيطاليين انتخبوا موسوليني. ان الروس جروا وراء ستاليني الذي ساق الملايين للمعتقلات فالملايين تخدع.. لابد من نظام وخطوات معروفة ومتفق عليها. وهذا يتم بنوع من التفاهم بين المجلس العسكري والقيادات السياسية واهل الرأي. لابد ان يعلن المصريون أنهم مصرون علي الديمقراطية وانهم لن يتركوا لاحد الفرصة لخطف الديمقراطية أو سرقة السلطة.